البيروقراطية وتكرار الخطأ

أحمد ماجد الجمال
بيروقراطية…مصطلح يشير إلى سلطة الموظفين وتطبيقهم القانون بالقوة في المجتمع الوظيفي, وحظي هذا المفهوم باهتمام كبير نظرا لارتباطه الوثيق بمصالح الناس وشؤونهم اليومية لكن الكثير من أوجه البيروقراطية والجمود الإداري في الدول المتخلفة هما أحد أسباب التخلف الحضاري، وأحد أهم أسباب تأخر الحلول للكثير من المشاكل السابقة أو الحالية,والمشكلة الأعوص إننا في عصر تقنية الاتصالات والمعلومات,ولازالت البيروقراطية في شكلها العام وجزء كبير منها يخنق النجاح ويحجب معرفة أسباب الفشل,إذ أصبحت الإدارات في كل المرافق العامة تدار بآليات بيروقراطية عتيقة وهي في الأصل فساد وتحايل على الأنظمة واللوائح والإجراءات,كما أن الضبابية في اتخاذ القرارات أو تنفيذها يأتي بحسب الأهواء والمواقف وان تداخلت معها  كم الرغبات الشخصية والسلوكية  والثقافة المجتمعية والوجاهة الاجتماعية,وارتفاع التراتبية التي تقوم على التناسب الطردي للصلاحيات والمسؤولية، وهذا من مواطن ضعف البيروقراطية، فالموظف البسيط الذي هو المنفذ المباشر على تقديم الخدمة كان بلا صلاحيات كاملة، وبالتالي إلى حد ما لا يتحمل مسؤولية عن تردي مستوى الخدمة وبمرور الوقت تغير الوضع بتحمل الموظف النتائج لأنه أصبح مشاركاً. وهنا أصبحت المعضلة كبيرة وكلها تصب في خانة واحدة هي الابتعاد أكثر عن المنفعة العامة أضف إليها جمود وعدم  تحريك المياه الراكدة والسماح لرياح التغيير للبيروقراطية المعتادة من أن تنقيه من جذوره إذ أثبتت فشلها خلال مراحل زمنية  مختلفة في إيجاد الحلول لمشاكل وحاجات أفراد المجتمع اليومية والمزمنة.
يمكن القول إن الصناعة الرديئة في البيروقراطية تتغير بحسب البيئة الإدارية مع تراكم السنين من وضع تنظيم صارم يتم تكبيله بالقيود ليصل لحد التبلد الإداري والشلل العملي،مما يجعله عائقاً للتقدم وميداناً فسيحاً للفساد الإداري والمالي,وتخبط في استشراف الرؤية والتخطيط المستقبلي،وعادة لا يكترث البيروقراطي المستفيد من مكان عمله بالطرق المختلفة بتدني المستوى والتستر عن الأخطاء والإضرار الذي نتج عن أدائه إلى أي نقد يوجه لسوء الإدارة وسوء تنظيمها،أوالى النتائج,التي تتسم بالضعف والانتهازية والاختراق ،فهو غير مضطر إلى الإجابة، ولا يجبره الأداء البيروقراطي بالرد على التساؤلات المشروعة،لكن إذا تلقى تساؤلاًعن النقد الموجه له من مستويات فنية أورقابية،فإنه ينتفض بحثاً عن إجابة دون النظر إلى المقصود بالمسؤولية التي تعني ذروة العطاء وظيفيا  وليست  قيمة للوجاهة الاجتماعية والمنفعة .
البيروقراطية داء لابد منه، لكن لابد من (ميكانيزم) حيوية تقلل وتحد من مساوئه التي تتزايد يوماً وراء يوم ،ومن استغلاله لوجود ثقوب مرئية وغير مرئية تعاني منها الأنظمة واللوائح الجامدة التي بنيت في وقت وظرف معين وزادها اللاحقون ركاكة وكان مصيرها مثل مصير مثيلاتها تعود وتخضع لنظام بيروقراطي مخترق وبنفس النتائج بسبب  التعامل مع المتغيرات بنفس الطرق المعتادة ,وللتحرر والتفكير من خارج الصندوق إلى آفاق مفتوحة,فمن المهم وضع تصورات بالواقع وأدوات الإتقان وطريقة الأساليب الاستشرافية.
تنحصر أهم إنجازات الجمود البيروقراطي في قدرته على تضخم أجهزته الإدارية وازدياد المكاتب والموظفين وطول الإجراءات والتوجيهات المتشابه والمكررة مع نتائج مختلفة عن المقصود، والسبب كثرة تداخل المهام والاختصاصات وكثرة القرارات غير المجدية والاجتماعات الجانبية التي تنحصر جدواها فقط في إشغال الجو العام بالهامش مع إصرار أصحابها بأن الإنتاج والنتائج في مستوى الأهداف والسياسات العامة وهي خلاف ذلك أصلاً، فهي إما زوبعة في فنجان أو الدوران حول حلقة مفرغة على حساب المضمون.
لايمكن القبول بأي حال من الأحوال إعادة بناء الخطأ وإغفال التطور اللافت سواء السياسات والإجراءات الإدارية أو التقنية والتغيرات التكنولوجية المرتبطة بها من حيث أنها اقل إضراراً حال مقارنتها بالبيروقراطية التي تعتمد على عمليات إدارية مكتملة الأركان النظامية وتتخذ من الإجراءات والعلاقات الشخصية جسراً للبطء والجمود ومخرجاً موثوقاً لتبادل المنافع والمصالح بعيداً عن المصلحة العامة بطريقة احترافية تبدو أحيانا بعيدة عن الشبهات,ولا تقتصر عيوب البيروقراطية في حضور المخاطر الصورية فحسب بل تكون سبباً في تشويه وتعطيل للخدمات والمشاريع العامة.
والتغيير في البيروقراطية ومكائنها يحتاج إلى فعل غير مسبوق للتحول في وقت قياسي إلى خلية من العمل ومحاولات النهوض من آثار وتداعيات بيروقراطية تشوهت واستمرت طويلا، لكن يجب ألا نتعجل بالنتائج وذلك مرده ما تمر به البلاد من عدوان وحرب شديدة طال مداها، وعلينا أن ننتظر النتائج الايجابية في مستقبل الأيام لأن تجاربنا السابقة مع بدايات أي إدارة متشابهة، ودائماً ما تبدأ بحركة غير عادية وتصريحات وعمل دؤوب في بدء دورة لأي عمل جديد لكن ما تلبث هذه الحركة إلا أن تركد إلى السكون أو الجمود مرة أخرى كدورة طبيعية للبيروقراطية السيئة لتثبيت بذلك ضعف جدواها وإذا حدث ودخلت مرحلة البيات البيروقراطي فإعادة الحياة إلى الفعل البيروقراطي المقيد الخالي من الاستغلال السيئ بمعنى الرشد والموضوعية اللذان يهدفان إلى تحقيق التنظيم المثالي الذي من شأنه تسهيل وانسيابية الاجراءات التنفيذية مرة أخرى يحتاج وقتاً وانتظاراً أطول.
حالة الجمود أو الإنجاز البيروقراطي لها علاقة بالكفاءات البشرية التي تديرها أيضا وبمستوى تجدد التقنية والقيم الإدارية والعلمية والأنظمة واللوائح والإجراءات، لكن على الأقل الوصول إلى قناعة مفادها أن البيروقراطية وتراجع المستويات الإدارية الذي تصدر منها الأخطاء وتصر على صواب أدائها ونتائجه يصبح من الصعب تضيق أخطائها حاضراً وفي المستقبل، لذا لا بد من إيجاد ميكانيزمات إدارية لمعالجة بؤر إنتاج الأخطاء الإدارية وتضاد وتكرار الاختصاصات والمهام ,ثم التخلص منها، واستبدالها بمفهوم ورؤية وقدرة على تجاوز أزمات المجتمع وتحدياته خصوصاً ونحن نعيش في زمن متغير ومرن لم تعد الخبرة والمهارة والتكنولوجيا فقط هي العناصر المطلوبة من العمل كما لم تعد الدرجة العلمية أو الجامعة التي تم التخرج منها هي المعيار إنما كلها مجتمعة وتعمل كحلقة متكاملة.
والفكر البيروقراطي إذ لم يحدث أي تغيير في خطط التنمية ويحقق نتائج ملموسة يظل يعيد بناْ نفس  الأخطاء,فوضع البيروقراطية وآليات التغلب على التحديات وتخلفها عن مسايرة العصر لم يحقق النتائج المرجوة, وهو أمر يعاد ذكره منذ زمن،وإذا ما أردنا أن نحصل على مخرجات ونتائج جيدة تمكننا من تحقيق رؤية مستقبليَّة طموحة وواضحة تعني بمعالجة وتطوير القائم، والخروج عن المألوف المنتهي مفعوله يأتي عبر كسر القواعد الراسخة في بيئة صارخة على تكريس البيروقراطية المعتادة حتى لا تعود بصورتها السيئة وتخضع لها بواسطة أنظمة ولوائح وإجراءات وتعميمات ضعيفة وقابلة للاختراق وبنفس أدوات التجاوزات والمخالفات والمحسوبية, وزبده القول في هذا المجال أن الأمر يحتاج إلى تخطيط للمستقبل على القاعدة العلمية والموضوعية وبأدلة مُفصلة ومحددة بما يكفل تطبيقها بشكل عملي يضمن تحقيق رؤية ورسالة وأهداف الجهة بمعني تعديل جذري لكثير من الأنظمة واللوائح  والتعميمات وضبط الأهداف والسياسات العامة  والمهام والاختصاصات وتوحيد الإجراءات وان اعتبرت رحلة طموحة  جداً تحتاج إلى الدعم والمتابعة المتخصصة المستمرة للوصول إلى مراحل متقدمة من النضج بعد مراجعة شاملة ودقيقة لتلك الأنظمة واللوائح وتهيئة البيئة الإدارية للانتقال إلى مفهوم “الإدارات الحكومية  الحديثة” ولأن الصقل والبناء لا يأتي إلا من التطبيق والتعلم من الخطأ والتعثر والقيام حتى يشتد العود وهو الوسيلة للخلاص من احد أسباب التخلف الحضاري….
باحث بوزارة المالية

قد يعجبك ايضا