المرتب وأبن مسعده
عباس الديلمي
لا جديد في قولي بأن لا شاغل للناس – في اليمن – كالمرتب ولا مبالغة في القول بأنه كاد يسحب من المتنبي وصفه بمالئ الدنيا وشاغل الناس.. ولأني قد ضمنت قراءة الكثيرين لما سأكتبه عن المرتب.. ها أنا أدعوكم أولاً إلى قراءة هذه الحكاية والمختاره من كتب التراث.. كوني احد المتشيعين بالخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد، ومن يرى فيه حامل رأية ازدهار الأدب والفكر.
وأنه أعلم من تولى الخلافة – في زمانه – بل هو أعلم من في زمانه إذا ما عدنا إلى مقولته الشهيرة ” لعن الله ملكا يدخل عليه من هو أعلم منه”.
هذا الخليفة العالم الأديب دخل عليه ذات يوم أحد الكتاب في بلاطه يدعى أحمد بن يوسف.. فرأى في يد الخليفة المأمون رسالة صغيرة، يقرأها ثم يضعها، ثم يقوم ثم يجلس ويتأملها مرة أخرى وهكذا.. وعندما لاحظ الخليفة أن كاتبه يتأمله باندهاش بادر إلى سؤاله قائلاً: لعلك يا أحمد تفكر في ما رأيت فأجابه كاتبة: نعم .. وفي الله عز وجل أمير المؤمنين المكاره، فقال المأمون: الأمر ليس بمكروه، ولكني كنت سمعت والدي هارون الرشيد يقول ” إن البلاغة هي تقارب من المعنى البعيد، وتباعد من حشو الكلام، ودلالة بالقليل على الكثير” ولم التأكد من توافق هذا الوصف للبلاغة مع ما يكتبه البلغاء حتى قرأت هذه الرسالة..
انتهى كلام الخليفة المأمون، والآن ناتى على الرسالة وصاحبها، وما بها أن الرسالة التي رأى فيها المأمون مثالاً للبلاغة وابتعادا عن حشو الكلام وقول الكثير بالقليل، هي ما بعث بها أحد قادته في ثغور مملكته، يستعطفه فيها على حال جنوده، وهذا القائد هو “عمرو بن مسعده” أما الرسالة فتقول: “كتابي إلى أمير المؤمنين أيده الله، من عندي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أفضل ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم”.
هكذا كانت رسالة القائد ابن مسعده إلى الخليفة المأمون، سطرين فقط، فوجد فيها الخليفة الكثير مما يقال عن جنود تأخرت مرتباتهم فأثبتوا من طاعتهم ما لا يثبته إلا جنود تأخرت مرتباتهم وأرزاقهم واختلت أحوالهم فما كان منه أي الخليفة إلا أن أمر لهم بصرف رواتب ثمانية أشهر.
ها قد أخبرتكم عن المرتب والخليفة وابن مسعده وكم تمنيت لو أني أملك بلاغة ابن مسعده فابعث إلى ولي الأمر برسالة قصيرة يقرأ فيها الكثير وتوضح بأن من يطيع وأن تاخر رزقه واختلت أحواله، إنما يجسد أروع الوفاء والطاعة ذوداً عن وطنه وكرامة شعبه، وهذا اسمى مراتب الطاعة ليس لولي الأمر فقط بل للقيم والأهداف النبيلة، وعليه فإن تقدير ما فعلوه واجب تحتمه المكارم والمسؤولية.
قد يعتقد البعض اني فبركت هذه الحكاية، ولهذا ادلكم على مرجعها، اسم الكتاب طرائف وفكاهات من تراثنا العربي والمؤلف محمد شوقي أمين عضو مجمع اللغة العربية.
الناشر: دار الثقافة