عند كل محنة، وفي كل منعطف أو مأزق تاريخي مرت به اليمن في العقود الثلاثة الأخيرة، كنت أجد في الاستاذ أحمد قاسم دماج قدراً كبيراً من الأمل والبشارة بالفرج بعد الشدة والراحة بعد العناء هكذا كانت تجربتي مع استاذي ورفيق دربي منذ سنين لم أكن أعهدها طويلة، حتى كانت وفاته التي ذكرتني بمعرفته لأول مرة بعد أحداث يناير 1986م المؤلمة وما خلفته من تمزق واضطراب ليس بسبب ما جرى وحسب ولكن بالخوف من الآتي كان لقائي بالأستاذ أحمد ومعرفتي الأولى به، علامة مضيئة بيضاء في ذلك الزمن الصعب وعلى رغم ألمه بسبب تلك الأحداث وبسبب سقوط تجربة تاريخية كان يؤمل مع كثير من رفاق دربه أن يشهد نضوجها واشتداد عودها لتظلل اليمن كلها، وبسبب مقتل الكثير من الشخصيات السياسية والثقافية التي تقاسم معها الحلم بمستقبل أجمل، وتعاهدوا على السير في درب الوحدة والحرية حتى آخر العمر، لكن حرب الرفاق قصفت أعمار الكثير منهم، وملأت الدرب بالعقبات والآلام وأثارت عصبيات قديمة وثأرات دفينة كنا نعتقد أن الزمن طواها وحكم بنسيانها، ولكن ها هي تظهر من جديد وتعلن حروبها القديمة بشعارات ماركسية جديدة في الطريق من مقر اتحاد الأدباء في شاطئ جولدمور بالتواهي إلى مقر اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي المقابل لساحل أبين حيث أخذت الأستاذ أحمد إلى هناك حيث كان على موعد مع الأخ علي سالم البيض الأمين العام للحزب آنذاك، تحدث الأستاذ أحمد قاسم عن أحداث يناير وما سبقها وما لحقها من تحولات، ورغم ضبابية الواقع كنت أجد في حديث دماج موسيقى هادئة كأنها تنبعث من سيمفونية بيتهوفن “الأمل يقرع الأبواب” السيمفونية التي ألفها ولم يستطع سماعها لأنه كان قد أصيب بالصمم حين تأليفها، هذا التمازج العجيب بين الابداع والعجز في حالة بيتهوفن، كان يبرز مختلفا في حديث دماج الذي يستشعر بشارة بالخلاص رغم قلقه وخوفه على فشل التجربة الاشتراكية في عدن.. لقد كان حديثه عن ذلك الفشل تقييما فكريا وسياسيا نادراً ومنفرداً فهو الذي ينتمي إلى نفس الفكر والايديولوجيا المهزومين في الحرب التي دارت أحداثها في نفس الطريق بين ساحلي جولدمور وأبين، لم يكن في ذهنة البكاء على أطلال التجربة بين الساحلين بل كان يفكر في فجر جديد ينتظر بزوغه من المكان، كأنه بخبرته السياسية العميقة وإيمانه الوثيق بالوحدة كان يقرأ الآتي ويحوله من حلم إلى إرادة وأمل وعمل وهذا ما تحقق بعد أعوام قليلة.
وبعدها بدأ مشوار جديد في تجربة دماج ونضاله اليومي، أصبح الأمر يتعلق بمسار الوحدة التي تحولت من حلم إلى واقع يومي ورغم الصعوبات التي واجهت هذا الحلم المتحقق والأفراح التي لم تستمر أكثر من عامين أخذت بعدها مرحلة من الأزمات المتوالية تظهر في مسار الوحدة وبدأت أصوات ناقدة تتوجه نحو اتحاد الأدباء الذي كان مبادراً ومبشراً بالوحدة وكان دماج والجاوي أبرز رمزين لهذا التيار في اتحاد الأدباء ولعلهما تحملا العبء الأكبر بسبب أخطاء القادة السياسيين وخلافاتهم وقد لعبا دوراً كبيرا ومهما لتفكيك تلك الأزمة التي ما فتأت أن أفضت إلى الحرب في 1994م وبعد اشهر من تلك الحرب التقيت أحمد قاسم دماج في المكلا كان يسبح في بحر العرب بالمكلا وعلى ذلك الشاطئ تحدث معي عن الحرب والانفصال ومستقبل الوحدة وكعادته دائما كان مفعما بالتفاؤل والأمل رغم الحزن والانكسار والألم بسبب الحرب وما خلفته من خروق في المشروع الوحدوي الذي لم نعمل جادين على حمايته ورعايته بعد تحقيقه، ذلك ما قاله لي وهو يرنو إلى البحر ويتحدث عن تجربة الوحدة التي تظهر كسفينة في البحر تواجه العواصف والأعاصير، لكنها تظل صامدة وقادرة على الاستمرار.
هل غاب دماج في الزمن الصعب؟ هل كان التمزق والأصوات المتعالية بالانفصال والتشطير هماً كبيراً أثقل على صدره وأصاب قلبه بجلطة بحجم الوطن؟
لأكثر من عامين غاب عنا دماج بسبب المرض والعجز وربما بسبب رفضه للواقع الذي أحرق أحلام اليمنيين وحولهم إلى طوائف وقبائل وجماعات متقاتلة ومتناحرة لم يتسع صدر دماج لما يجري في اليمن، ولم يتمكن بحكمته وعقله المتنور أن يرى بصيص نور وأمل في نهاية النفق الذي دخلته اليمن.
لماذا لم يستطع قلب دماج أن يتحمل مأساة اليمن اليوم؟ هذا الرجل الناحل الذي عاش الأزمات والحروب منذ أيام الامامة والاستعمار، لم يصب بالعجز أو الوهن وكانت إرادة الحياة عنده أقوى من كل العقبات.
هل هي الشيخوخة يا أحمد هي التي أقعدتك في بيتك ولم تعد ترغب النزول إلى الشارع حتى لا ترى ما تعجز عن فهمه وإدراكه من تحولات الشارع وتداعياته؟
وربما أن هذا ما أزعجك فلم تعد ترغب في الحياة، لقد غاب دماج في الزمن الصعب، فمن يرتب لنا آمالنا القادمة ومن يقرأ لنا الآتي المتشح بالنصر والأمل بعد أن أغمض القارئ الكبير عينيه وتركنا لمصير ينبغي أن نعمل بعزم وإرادة من أجل تحقيقه.
Prev Post
Next Post