في حضرة الفارس دماج

أحمد يحيى الديلمي
فقدت اليمن أديباً لامعاً ملتزماً، وابناً باراً، ومناضلاً وطنياً جسوراً .
من صمت وخضرة ومدرجات قرية النقيلين تعلم سحر الشعر . ومن عمه المناضل الجسور مطيع دماج تشرب النضال ومعاني التضحية وطُهر الإقامة الدائمة في خاطر الوطن . يعيش معه وإن أحتسى كأس الألم أو لسعت جسمه ســــياط الفقر لا يتغير ولا يتبدل، موقناً كل اليقين أن المواطنة الصادقة روح الانتماء، والانتماء عطاء دائم بلا مّن ولا ينتظر الجزاء .
هذا هو السلوك الراقي الذي جسده الفقيد الراحل أحمد قاسم دماج طوال أيام حياته ظل يعطي بلا مّن ولم ينتظر الجزاء من أحد . لم أتصور يوماً أن الحزن سيعتصر قلبي والنشيج سينطلق من صدري كما حدث عند سماع خبر وفاته وانتقاله إلى جوار ربه، قلت لنفسي من غير المعقول أن يمضي الزمن بهذا الأسلوب المتعسف الرديء إلى حد أن الهموم ومشاكل الحياة اليومية شغلتنا عن متابعة أوضاع أعز الأصدقاء، تغافلنا عنهم حتى حصلت الكارثة وتناهى إلى أسماعنا بيان النعي، خاصة عندما يكون هذا الصديق مثل الأستاذ أحمد قاسم دماج الذي ترك في نفسي أعز الذكريات .
من أول لقاء جمعني به في منزل الشاعر المرحوم عبد الرحمن محمد قاضي الذي كان آنذاك أهم منتدى للأدباء والمفكرين، حدث بيننا انسجام عجيب ما لبث أن تعزز بعد أن رأس الفقيد اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وشكل مع العظيم المناضل الكبير الأستاذ عمر عبدالله الجاوي ثنائياً متميزاً، وتصادف ذلك مع عودة أديب اليمن الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح من القاهرة، فلقد انتعش الاتحاد وتعاظم دوره في لم شمل الأدباء والكتاب اليمنيين وأسهم بشكل مباشر في إذابة الجليد بين الساسة في شطري الوطن، وأزال بعض التشنجات التي مهدت لإعادة تحقيق الوحدة باعتباره المؤسسة الاتحادية الوحيدة في زمن التشطير .
في تلك الفترة كنا نلتقي بشكل يومي، وظل كما عرفته بنفس الطباع والسجية الطيبة لا يخلو برنامجه اليومي من زيارة أكثر من مسئول حاملاً أوراق ومعاملات عدد من البسطاء الذين يلجأون إليه يقضي حوائجهم ويبذل جهداً كبيراً لتحقيق ذلك . لم أسمعه يوماً يطلب شيئاً لنفسه أو يتحدث عن أحواله التي كانت في بعض الأوقات أكثر سوءاً ممن يتوسط لهم بالذات عندما يتأخر العائد السنوي المعتاد من البلاد، مع ذلك لم أسمعه يتحدث عن نفسه ولم يخرج بأي فائدة تخصه باستثناء إذا رأى كتابا مميزاً فإنه يطلب السماح من صاحبه لأخذه، أذكر أن الأخ الصديق شوقي شايف الأغبري عندما عُين وكيلاً لقطاع الثقافة بوزارة الإعلام والثقافة كنا ما أن نطل عليه من باب المكتب فيبادر إلى إخفاء الكتب التي تكون قد وصلت للتو قبل أن تقع عين المرحوم عليها لأنه سيأخذها، وفي إطار نفس البرنامج اليومي كان المرحوم يحرص على اصطحاب العدد الذي يقابله من الأدباء والصحفيين بالذات المسحوقين لتناول طعام الغداء في منزله، يحس بسعادة بالغة والأيدي تتزاحم في مقلى العصيد، والأفواه تلتهم ما تجده أمامها .
أشياء كثيرة جداً لا يمكن أن أحصيها ولا يتسع المجال لذكرها، فالجميع يعرف أن حياة الفقيد أتسمت بالبساطة والتواضع والعطاء، ظل في صنعاء عقوداً من الزمن يتنقل في بيوت الإيجار ويعاني من صلف بعض المؤجرين، رغم أنه كان بإمكانه الحصول على مسكن، لكنه لم يفكر في ذلك يوماً، مع أنه لعب دوراً كبيراً لحصول البعض على منازل أو أراضي واستخرج أوامر مكنتهم من الحصول على أراضي متجاهلاً نفسه كما تعود الآخرين على سلوكه المتسم بنكران الذات وتجاهل النفس، مقابل الاهتمام باحتياجاتهم .
لكل هذه الذكريات التي عنوانها العطاء لذات العطاء، والمواقف الإنسانية التي حدثت أمامي كانت صدمة الفقد بالنسبة لي كبيرة جداً، لم أتمالك نفسي لكنها الأقدار خاصة في هذا الزمن الذي لا شك أنه زمن رديء يجمع كل قسوته ويصبها على رؤوسنا بلا رحمة حتى غدت الحياة كلها مآسي بلا أفراح حقيقية، الأصدقاء الطيبين يتساقطون الواحد تلو الآخر، ولا نعلم إلا بسماع النعي الذي يتناهى إلينا، وها نحن اليوم نودع الرائع دماج بعد أن طاله كف القدر .
وأنا أقف خلف نعش المرحوم أثناء الصلاة عليه، تبادرت إلى ذهني عبارات من إحدى قصائده التي جاء فيها :
هل نبذتنا المنابر من ضجر ..
أم نبذنا الوقوف على عتبات الزمان ..
المدنس بالزيف، والدجل، والانحناء ..
ولنا خلف نعشك من رهبة اللوعة البكر ..
ما للبهاليل ..
كدت أسقط من الرهبة، تذكرت الصدى الذي كان يحدث لقصائد المرحوم كلما رأت النور .. رغم قلتها إلا أنه كان يمعن النظر أكثر من مرة قبل إخراجها إلى الآخرين، لأنه تعلم من أبيات القصائد كيف تنمو الأحلام وتتحول بالإرادة إلى سلوك مألوف في الحياة اليومية .
واستلهم من بحور الشعر وقوافيه السر العجيب الذي يحول السكون القسري إلى حركة وثورة . والانكسار إلى انتصار . والشدة إلى فرح .
فالفقيد أمضى كل حياته مسكوناً بالحب للوطن ولكل من حوله من البشر الذين أحبوه وأحبهم، كنت أراقبه في فترة وجوده على رأس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وهو يعطي رعاية خاصة للأدباء الشباب، يحرص على تشجيعهم ويتعاطى مع ما يعرضونه عليه من محاولات أدبية بتواضع جم، ورغبة صادقة في مساعدتهم وتنمية مواهبهم، إضافة إلى اهتمامه بأوضاعهم الحياتية وتفاعله مع همومهم اليومية مهما تدنى شأنها، وهذا يؤكد فعلاً أن الفقيد كان عظيماً والكارثة كانت كبيرة، كما أوحى بذلك الكثير ممن شاركوا في تشييعه، وهو حضور نوعي جداً، لكن ما يُعزينا أنه ترك أولاداً طيبين وتراثاً يمكن أن يجعله مسكوناً في أذهاننا، وإذا كان الموت قد خطفه منا ومن الحياة فإن صورته لن تغيب عن أذهان من عرفوه واستمتعوا بأدبه وعطائه، لك الرحمة أيها الفقيد ولأبنائك ومحبيك الصبر والسلوان .. وإنا لله وإنا إليه راجعون .

قد يعجبك ايضا