العريس الذي نجا من المجزرة..وعاد لينال الشهادة !
*صادق عبدالله الجريزع..
معاذ الخميسي
– اغرورقت عيناه بالدمع..وتوقف عن الكلام..وكأن شيئاً يكتم أنفاسه..أو أن غصة في الحلق تمنعه من أن يبلع ريقه الجاف ويحاول مرة أخرى أن يستعيد القدرة على أن يتحدث عن فلذة كبده..وبهجة روحه..الذي غادر فجأة..ومضى نحو ربه مغدوراً ومظلوماً ومقصوفاً بأشد وأبشع وأبهض الأسلحة المحرمة..
– عبدالله الجريزع..الرجل القوي..والإنسان الصابر الذي استسلم لأن يهزمه الألم..وكيف لا يهزمه وهو الذي افتقد ابنه إلى الأبد حين عاد بعد أن نجا وغادر الصالة الكبرى ليبحث عن أبيه..وظل يهتف في ظل مشاهد الدماء والاشلاء والجرحى..والنار التي تتصاعد وتنتشر..والدخان الذي غطى كل مافي الداخل..أبي..
أبي..أبي..أين أنت..ويبكي..ويكاد يختنق..ووالده يبحث عنه في خارج الصالة..إلى أن قصف القتلة المجرمون بالصاروخ الثاني وأسقطته شظية سكنت قلبه الذي كاد يتوقف خوفاً وقلقاً على أبيه..وتوقف فعلاً قبل أن يجده..!
– لن يكفيه ماتبقى من عمر لأن ينسى تلك اللحظات الموجعة..ولا أن يتجاوز فداحة وجور أن يتسرب أغلى أبنائه من بين يديه..ويختفي من أمام عينيه..وهو الشاب الذي مازال عريساً ولم يمض على يوم زفافه سوى أيام قليلة..وكان للتو بدا حياته الجديدة وسكن إلى نصفه الآخر وشريكة (الحلوة والمرة) بعد أن جمع أشتاته وطوى سنين الغربة(الست) في بلد المهاتير محمد(ماليزيا) حيث كان يلتقط خيوط النجاح والتميز في طلب العلم ومواكبة علوم العصر..وحضر في ظل الحرب والقصف..والخراب والدمار..والدماء والاشلاء..لينال الشهادة..ويذهب إلى ربه حيث جنات النعيم
..كان والده قد نجا مع ابنه صادق ومرافقه صدام من محرقة الصالة الكبرى..فبعد أن قدم واجب العزاء الديني والانساني والاجتماعي..وقف وبدأ يلوح بسلام الوداع لمن كانوا جالسين الى جواره وأمامه..ونظر إليه ابنه ووقف وإلى جانبه صدام الأشول (مرافق والده) ليستعدا للخروج معه..وما إن بدأ الخطوات على مقربة من باب الخروج وخلفه ابنه ومرافقه..حتى سقط الصاروخ الأول وتحولت صالة العزاء إلى شظايا ونار وأرواح أزهقت وأخرى (تنازع) في لحظاتها الأخيرة..وأرواح مازالت تضج بالحياة وتبحث بين جدران الموت المحقق عن مخرج أو منفذ يقود إلى النجاة !!
– وكان الجميع (أحياء وجرحى) يتقاسمون الهلع وهم محشورون تحت سقف منهار بقواعده الحديدية واغطيته الاسفنجية ونار تتصاعد وتتوسع يميناً وشمالاً ودخان يسبح في كل اتجاه وبارود يكتم الأنفاس ويصادر فرص البقاء..!
– رأى صادق ضوءاً أمده بالحياة بعد أن نجا ووصل الى خارج الصالة وكذلك صدام..وكثيرون ممن كانوا على مقربة من الباب..وعاد والده يبحث داخل الصالة عن منفذ آخر بعد أن كاد يختنق من دخان اللهب والبارود..
وحين اقترب من النافذة الغربية وقبل أن يقفز من مسافة بعيدة وينجو كانت أحاسيسه الإنسانية قد أجبرته أن يتوقف على صوت أحد المدفونين تحت عمود حديدي وطلب من آخرين مساعدته ورفعوا العمود الحديدي قليلاً ليتمكن ذلك الشخص من الإفلات من محرقة حقيقية وهو حي..!
– لم يفكر أن يبتعد كثيراً وظل يمشط (الحوش) في المساحات المحيطة بالصالة بحثاً عن ابنه..ووجد نفسه وقد اعتلى جدار الصالة ظناً منه أنه سيلمحه بين رؤوس تملأ ما جوار الصالة بحثاً عن بصيص حياة..وبعض أشخاص يحملون على الأكتاف مضرجين بدمائهم وبعض آخر وقد تناثرت اشلاؤهم!
– ظل واقفاً يسأل نفسه..أين أنت يا ابني..وأين ذهبت ياصدام..وبين التساؤلين قُصفَتْ الصالة بالصاروح الثاني..وتطايرت الشظايا وارتفعت ألسنة اللهب والكثير من المسعفين داخل الصالة ينقذون الجرحى..
وصادق عبدالله الجريزع..الشاب العشريني الذي نجا عاد من جديد إلى الصالة ليبحث عن والده..ووجد الموت هناك طي شظايا الإجرام والعدوان..!
– هنا بدا والده مذهولاً..ومصدوماً..ومفجوعاً..ومنهاراً..والحزن يقطع أنفاسه..يستوطن أيامه..وذلك الذي رعاه..ورباه..وعلمه..وزوجه..وأراد له أن يعود إلى ماليزيا ليأتي بالدكتوراه..أسرع الخطى مصراً على أن يرافقه الى العزاء..فعاد الوالد إلى المنزل ولم يعد الولد إلا جثة هامدة..ليمنح والديه شرف الفوز بالشهادة والشفاعة لهما..ويمنحه الله عظمة الفوز بالجنة والنجاة من النار..لأنه عاش مؤمناً مستقيماً وتقياً..وطاهرا ونقياً..وإنسانا طيباً ونبيلاً..وسموحاً ومحباً.
– هي دقائق معدودة..مشاهدها المؤلمة لاتغادر عينيه..حتى حين يغمضهما استعداداً لأن ينام أو أن يرتاح قليلاً..لا تذهب بعيداً..فكل ماحدث لايصدق ولا يمكن أن يتوقعه أحد..ولا أن يفكر به حتى إبليس اللعين كما يقول وهو يتحدث والحزن يستبيح لحظاته !.