الثورة الرقمية ودماغ الإنسان

الثورة نت/..

عرفت مختلف المشارب العلمية تقدّماً كبيراً خلال الحقبة الأخيرة قبل الثورة الرقمية وفي ظلّها. والعلوم الطبية هي في مقدّمة تلك المشارب. وإذا كان الدماغ البشري، المحرّك الأساسي للجهاز العصبي، قد أصبح أقلّ جهلاً به فإن الإنسان يكتشف يوماً بعد آخر أنه لا يزال «قارّة مجهولة» وأن هناك الكثير من الجهود لمحاولة اكتشاف خباياها ومجاهلها.
ومن بين هؤلاء المكتشفين «ادريس ابيركان»، أستاذ مادة الجغرافيا السياسية ــ الجيوبوليتيكيا ــ واقتصاد المعرفة في المدرسة المركزية ـ ايكول سنترال ــ، الشهيرة في فرنسا كإحدى أهم المؤسسات التعليمية، والباحث في المركز الفرنسي للبحث العلمي، كما في جامعة ستانفورد الأميركية.
لقد صدر له في شهر أكتوبر المنصرم كتابا أثار الكثير من الاهتمام في الأوساط الإعلامية والعلمية تحت عنوان «حرروا دماغكم» واعتبره مؤلفه بمثابة «بيان الحكمة العصبية»، كما جاء في عنوانه الفرعي.
يفتتح «ابيركان» عمله بنوع من التحذير مفاده «إننا لا نستخدم دماغنا جيّدا فهو محاصر ويتألّم». وما يؤكّد منذ البداية أيضا هو أن البشر لم يستخدموا حتى الآن سوى نسبة ضئيلة جدا من إمكانيات الدماغ. ذلك على غرار عدم استخدام جميع الإمكانات الحقيقية لأعضائنا الأخرى التي لا نستخدمها «بكل إمكانياتها» في حياتنا.
ويشرح أنه يمكن لجميع البشر العاديين، وليس للعبقريات وخارقي الذكاء، أن «يفكروا أفضل ويتعلّموا أفضل ويعيشوا أفضل» إذا استخدموا «الثروات الهائلة» التي يكتنزها دماغهم.
المثال على ذلك كلّه تجسّده تجربته الشخصية، حيث إنه أمضى دراساته الابتدائية في إحدى مدارس مناطق الضواحي «الصعبة» كإشارة إلى وجود أعداد كبيرة من أبناء الهجرة فيها. لكن ذلك لم يمنعه من التخرّج من مدرسة المعلمين العليا في باريس التي مرّ فيها كبار مفكري وفلاسفة فرنسا، وأنجز دراسات في جامعتي كمبردج وستانفورد لينال في المحصّلة ثلاث شهادات دكتوراه في العلوم العصبية والجغرافيا السياسية والأدب مع بلوغه التاسعة والعشرين من عمره.
الفكرة المركزية في هذا الكتاب مفادها أن الدماغ «أكبر» من كل ما حققه من إنجازات وأنه تنبغي مساعدته كي يتجاوزها وهنا تكمن عملية تحريره.
ويؤكّد المؤلف في تحليلاته على أهمية اقتصاد المعرفة، الذي يقوم أصلا بتدريسه للطلبة الجامعيين، وأنه ينبغي استثماره إلى أكبر قدر ممكن، هذا خاصّة أن المجتمعات الحديثة تمتلك كميات هائلة من المعرفة. ولكن لا يتم بالمقابل، رغم ذلك، انتاج سوى القليل جدا من الحكمة. هذا في الوقت الذي يتمّ التأكيد بهذا الصدد على أن حضارة تنتج الكثير من المعارف التقنية وغيرها دون حكمة إنما هي مؤهّلة للقيام بعمليات تدمير ذاتي خطيرة.
إن مركز الاهتمام الأساسي في هذا الكتاب يتعلّق أيضا بتوضيح أحد مشارب العلوم العصبية. المقصود هو علم جديد يدرس الدماغ وهو بحالة عمل. والدماغ بحالة عمل يعني دراسته في مجالات مختلفة تخصّ المدرسة والمكتب وشتى مناحي الحياة، وما يغطّي نشاطات مختلفة اجتماعيا واقتصاديا وعدا ذلك من مختلف حقول المعرفة.
وهو يقدّم طريقته في »تـفعيل الدماغ« على أنها تجري على أساس »تنفيذ سلسلة من التعليمات حسب نسق مطلوب «وليس بنسق» غير منتظم«. وذلك في أكثر المسائل تعقيدا، كما في أبسطها.
الخطوة الأولى في هذا المشرب »الذهني« يحدده مؤلف الكتاب بفهم »آلية عمل الدماغ.. ولا يتردد في توصيف ما يمكن أن يترتب على »تحرير الدماغ« بأنه نوع من »الثورة« الجديدة. ويجد تعبيراتها في كون أن الحديث لم يعد يقتصر على »العلوم العصبية« بل شمل فروعاً جديدة تعنى بـ»الاقتصاد ــ العصبي« و»التربية ــ العصبية«، بمعنى علاقتها مع عمل الدماغ.
وإذا كان المؤلف يدرس الدماغ الإنساني وما يمتلكه من إمكانيات فإنه يحاول أن يكشف أيضا ما يواجهه من»حدود«. هذا مع التركيز دائما بشكل خاص على »وسائل استخدامه بشكل أفضل«. ويذكر المؤلف بهذا الصدد العديد من الحالات العيانية المعروفة التي استطاع أصحابها استخدام نسبة أكبر من إمكانيات أدمغتهم في هذا الميدان أو ذاك.
على غرار المدعو »اليكس لومير« الذي توصّل إلى حساب الجذر الثالث عشر لعدد يتألف من مائة رقم، وبمدّة لا تتعدّى الثواني الأربع.
ما يؤكّده »ادريس ابيركان« في المحصّلة هو أن أدمغة البشر تتشابه وتتساوى إلى حد كبير في القدرات التي تمتلكها. لكن الفرق يكمن في »الطريقة التي يتم استخدامها بها«. وأحد الأهداف الأساسية التي يبحث عن تحقيقها في هذا الكتاب يكمن في شرح »الكيفية التي يستطيع البشر بواسطتها السيطرة على قدرات الدماغ«.
حجج مقنعة
من المهم التأكيد أن مؤلف هذا الكتاب يحاول على مدى صفحاته تقديم «الحجج المقنعة» بإمكانية تحسين عمل الدماغ. لكنه يحاذر بالوقت نفسه من تقديم »الوصفات الجاهزة..وصفات سحرية« تسمح للمبتدئ أن يتقن عمليات الحساب المتقن والسريع مثل خريج جامعة متفوّق في الرياضيات. ما يفعله هو تقديم مجموعة من المبادئ »المنهجية« التي يكون منها أن تجعل دماغنا، يعمل بصورة أكثر فاعلية وسرعة.

قد يعجبك ايضا