عواصم/ وكالات
أظهرت التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط توجها يثير الشكوك ويبدد كل الآمال في إيجاد صيغ مشتركة لتسوية الأزمات في المنطقة.
زيارة وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر مؤخرا لتركيا والعراق، بحثا عن وساطة إيجابية وفعالة بين بغداد وأنقرة، عكست لا توجها غير صحي على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية فحسب، بل وأيضا انحرافا واضحا في آليات محاربة داعش في العراق عموما، ودحر التنظيم في الموصل على وجه الخصوص. واتضح أن واشنطن لم تتمكن من رأب الصدع بين حكومة دولة ترفض التدخل التركي منفردا في أراضيها، وحكومة دولة أخرى ترى أنها تملك حق التدخل بدون أي تصريح في أراضي دولة أخرى.
ولكن الغريب هنا أن العراق لا يرفض وجود تركيا ضمن دول التحالف الدولي بقيادة واشنطن، بينما ترى تركيا ضرورة وجودها ضمن التحالف، وأيضا ضرورة قيامها بأعمال عسكرية بشكل منفرد. وبالتالي، لا أحد يعرف بالضبط ماذا أرادت الولايات المتحدة من الوساطة بين بغداد وأنقرة؟ هل واشنطن راضية عن الدور التركي المنفرد؟ وهل لا يروق رفض بغداد التدخل التركي خارج إطار التحالف؟ أم أن هناك رغبة لاستفزاز إيران التي أعلنت أن أي تدخل تركي في العراق يجب أن يكون بتنسيق مع حكومة بغداد؟
الزيارة المكوكية لآشتون كارتر تزامنت تقريبا مع تصريحات أمريكية قديمة/ جديدة حول ضرورة ابتعاد كل من موسكو وطهران عن دمشق. وعاد مجلس الأمن القومي الأمريكي مجددا إلى اتهام سوريا بتنفيذ هجمات كيمياوية، ومؤكدا أن الولايات المتحدة ستواصل العمل مع الشركاء الأجانب عبر القنوات الدبلوماسية، وفي إطار مجلس الأمن الدولي ومنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، من أجل محاسبة المتورطين في تنفيذ الهجمات الكيمياوية في سوريا. ومن الواضح أن هذه الاتهامات والتهديدات لا تتضمن أي جديد. ولكنها في الوقت نفسه تزامنت مع زيارات كارتر لكل من أنقرة وبغداد، ومع تصريحات إيرانية بشأن التدخل التركي في العراق، وعدم رضا روسي لرفض واشنطن التعاون البنَّاء في مكافحة الإرهاب والتنسيق الفعَّال لتفادي التصعيد في سوريا.
غير أن الأهم هنا هو تزامن كل ذلك مع دعوة وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر لبدء عملية عسكرية تهدف لعزل تنظيم داعش في مدينة الرقة السورية بالتزامن مع الهجوم على مدينة الموصل، معقل التنظيم في العراق. وهذه الدعوة تنطوي على قدر لا بأس به من “الوقاحة السياسية والدبلوماسيسة” و”البلطجة العسكرية”، وكأن لا أحد في الميدان غير قوات الولايات المتحدة وحلفائها في التحالف من جهة، والعناصر التي تراها واشنطن “معتدلة” من جهة أخرى، وعناصر داعش وأخواته من جهة ثالثة. وبالتالي، يمكن أن نفهم أسباب “ميوعة” واشنطن في التعامل مع الأزمة بين بغداد وأنقرة وعدم حرصها على توخي احترام العراق وسيادته، وأيضا في الحفاظ على عناصر “معتدلة” في سوريا، ربما من أجل استخدامها لاحقا لتنفيذ أجندة معينة في إطار فهم الولايات المتحدة .
لقد اعترف كارتر بأن واشنطن كانت تفكر منذ فترة طويلة في مسألة إجراء عمليتين متزامنتين في الموصل والرقة. والحديث يدور حول عزل الرقة بأقصى سرعة ممكنة. أي أن قوات التحالف تطرد الدواعش من الموصل، أو بالأحرى “هرَّبت” الدواعش بطرق مختلفة من الموصل في اتجاهات متعددة لا يمكن استثناء سوريا منها، ومن جهة أخرى تريد أن تبدد الشكوك حول إجراءاتها بوضع الجميع أمام الأمر الواقع والقبول بعزل مناطق معينة في سوريا، بينما تتجاهل الولايات المتحدة ما يدور حول حلب وفيها. وهذه لعبة كلاسيكية مفهومة وغير صحية على الإطلاق.
إن حالة “الجشع” التي تتملك الولايات المتحدة ليست جديدة أو خافية على أحد. ولكنها باتت تمارسها بشكل أقرب إلى الاستهتار المصحوب بالعنف والتضليل. الأمر الذي يعطي انطباعا بأن واشنطن لم تعد حريصة كثيرا لا على علاقاتها بحلفائها مثل السعودية وبقية دول الخليج، ولا على القانون الدولي، ولا حتى على مصالح شركائها الكبار الذين يطرحون العديد من المبادرات السياسية والدبلوماسية من أجل تفادي أي إجراءات أو خطوات غير محمودة العواقب. أي أن الولايات المتحدة، ببساطة، تمارس لعبة خلط أوراق في غاية الخطورة، وتحاول إعادة تشكيل علاقاتها بحلفائها أو استبدالهم أو تهديدهم وابتزازهم بهدف تحضيرهم لأدوار جديدة قد لا تتناسب مع أوضاعهم الراهنة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. ولربما يكون ذلك تحديدا، هو ما يجري بين واشنطن والرياض والعديد من دول مجلس التعاون الخليجي.
لقد كان الحديث يدور عن هدنة في حلب، تم تمديدها مرتين، من أجل ترسيخ رؤية التسوية السياسية ووضع مبادئ للتعاون بين موسكو وواشنطن. ولكن الأخيرة، بدأت عملياتها في الموصل، وتجاهلت تقريبا كل الدعوات الروسية. وعلاوة على ذلك، أمعنت في الحلول الجانبية بعيدا عن روسيا. وبالتالي من الصعب أن تقف الأخيرة مكتوفة اليدين أمام حالة من الجشع والتصعيد والاستفزاز. فأعلن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف أن مسألة استئناف الهدنة في حلب غير مطروحة للنقاش في الوقت الراهن، لأن هذا الأمر بات يتطلب ضمانات من الولايات المتحدة وحلفائها بلجم “الجماعات والتنظيمات” التابعة لها بمواصلة استخدام السلاح. بل وذهبت موسكو إلى أنها لاترى أي بوادر لعقد اجتماع جديد بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأمريكي جون كيري، بصيغة لوزان، قبل إجراء انتخابات الرئاسة الأمريكية في 8 نوفمبر المقبل.
“الجشع” الأمريكي المتزامن مع حالة “البلطجة” لا يعكسان فقط سعي واشنطن للاستئثار بكل شئ، بل وأيضا حالة من الفوضى السياسية والعسكرية التي تسبق الانتخابات الرئاسية، والتي قد تمهد لتوريط الساكن المقبل للبيت الأبيض في مستنقعات وحروب وعداوات إضافية. بل وربما يكتشف الساكن الجديد أن إدارة أوباما قد دمرت علاقات الولايات المتحدة بأقرب حلفائها، وبالحلفاء المحتملين أيضا.
Prev Post
Next Post