رغم »جاستا«.. لماذا لم تمنع السعودية إمدادات النفط عن أمريكا؟
محمود علي
جاءت المواقف المصرية الرسمية من الأزمات المشتعلة في المنطقة الفترة الأخيرة مخالفة نسبيًّا لنظيرتها السعودية، لاسيما في الملف السوري، فبعد تأييد القاهرة للقرار الروسي في مجلس الأمن حول الأزمة السورية أتجهت السعودية الى التصعيد، وقررت وقف إمدادها للبترول لمصر؛ في محاولة للضغط على القرار المصري، رغم أن الإمدادات وفقًا لاتفاقيات وليست منحًا ومساعدات كما يظنها البعض.
هذا الموقف السعودي الذي أثار الكثير من الجدل حوله دفع الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين للتساؤل: لماذا لم تتخذ المملكة الموقف نفسه من أمريكا وتوقف إمداداتها البترولية التي يقدر متوسطها بـ 1.494 مليون برميل يوميًّا؟ رغم أن أمريكا تتخذ في الفترة الأخيرة شكلًا ونهجًا مختلفين في سياستها تجاه المملكة حليفتها الكبرى في الشرق الأوسط، وصل إلى إقرار الكونجرس الأمريكي قانون جاستا، والذي يسمح بمقاضاة دول كالسعودية على خلفية هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
اختلاف السياسة الأمريكية تجاه السعودية
طرأ بالفعل تحول في السياسات الأمريكية نحو السعودية في الفترة الأخيرة، تمثل في ولادة قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب والمعروف بجاستا الذي يسمح لذوي ضحايا هجمات 11 سبتمبر بمقاضاة الحكومة السعودية، فضلًا عن توقيع الاتفاق النووي الإيراني والذي بحسب المملكة سيعطى طهران نفوذًا أوسع في المنطقة، ولكن لم يكن في وسع المملكة ومسؤوليها سوى التلويح بانسحاب الاستثمارات والتهديد بوقف التعاون الاقتصادي دون تنفيذ أي اجراء فعلي، حيث تعاملت السعودية ببلادة وجمود وعدم قدرة على تنفيذ تهديدها، في الوقت الذي تبدلت فيه الرؤية الأمريكية تجاه المملكة.
وكانت السعودية في العقد الماضي كثيرًا ما يتم وصفها بأكبر حليف لواشنطن، ولكن تغيرت النظرة، وأصبحت كحزام ناقل للتطرف والإرهاب، ففي الآونة الأخيرة تكاثرت الدراسات والمواقف والآراء الأمريكية في مراكز البحث والأفكار وعبر وسائل الإعلام والاتصال عن المواقف الرسمية التي تربط بين التطرف والسعودية.
وكان الرئيس أوباما قد كشف في 10 مارس 2016 في حوار صحفي مع مجلة “أتلانتيك” الأمريكية عن طبيعة تحول النظرة الأمريكية للسعودية من دولة حليفة في مواجهة التطرف والإرهاب إلى دولة تعمل كحزام ناقل للراديكالية والإرهاب، وعلل أوباما بالقول: “لأن السعوديين والدول الأخرى دفعت بالأموال، وأعداد كثيرة من الأئمة والأساتذة، نحو البلاد، ففي التسعينيات مول السعوديون بشدة المدارس الوهابية، التي تعلم النسخة الهوياتية من الإسلام والتي تفضلها العائلة الحاكمة السعودية»، وعندما سئل أوباما “أليس السعوديون أصدقاءك؟” ابتسم وقال: «الأمر معقد».
نظرة الرياض تجاه واشنطن والقاهرة
الفرق هنا في التزام السعودية باتفاقيتها تجاه الولايات المتحدة واتفاقيتها مع القاهرة مؤخرًا بوقف إمدادات البترول لمصر أن مسؤولي المملكة العربية السعودية يرون الولايات المتحدة الأمريكية ركيزة رئيسية لأمنهم واستقرارهم في الحكم؛ لذا فإنهم في كثير من الأحيان يتبعون سياساتها الخارجية والإقليمية والدولية، ليس من الضروري فيما يتعلق بالتفاصيل والجزئيات، ولكن في الاستراتيجيات والتوجه العام، فالمفهوم العام أن المملكة لا تخرج بعيدًا عن الخط السياسي الأمريكي في الشرق الأوسط، مما يجعلها، أي المملكة، غير قادرة على التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية معاملة الند بالند، وينبني مفهوم السيطرة الأمريكية على السياسة الخارجية السعودية من مقولة مفادها إن الولايات المتحدة الأمريكية حامية للمملكة العربية السعودية تجاه أي خطر داخلي أو خارجي يهددها. في عام 1945تم التوصل إلى اتفاق كوينسي بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، والذي يدوم 60 سنة، وتم تجديد محتواها في 2005، وينص هذا الاتفاق على توفير الولايات المتحدة الحماية اللا مشروطة لعائلة آل سعود الحاكمة، مقابل ضمان السعودية لإمدادات الطاقة التي تستحقها الولايات المتحدة.
ومن هذا المنطلق يرى السعوديون أنه من الصعب الحديث عن مرحلة قطيعة بين البلدين رغم تدني علاقاتهما في السنوات الأخيرة وتفعيل قانون جاستا، كما يتخوف السعوديون من أن يؤدي تهديدهم بسحب الأرصدة السعودية من السوق الأمريكية إلى موجة من الاضطراب المالي في العالم، لن تكون المملكة بمنأى عنها، وستتسبب في تراجع قيمة الريال؛ ما يعني مشكلة إضافية لاقتصادها المتأثر بتراجع أسعار النفط والكلفة الباهظة لحربها في اليمن وتسليح المعارضة السورية، ودعم البلدان الإقليمية الحليفة.
وغالب الظن أنها هذه التهديدات التي لم تنفذ قط أتت من أجل استباق أي قرارات قد تصدرها واشنطن قبل تفعيل قرار جاستا في الكونجرس كورقة للضغط عليه، لا سيما أن واشنطن تبقى أكبر مصدر لتسلح الجيش السعودي، حيث تكشف بيانات مراكز البحوث أن السعودية أنفقت في العام الماضي قرابة 87.2 مليار دولار في مجال الدفاع، جلها صفقات من الولايات المتحدة، وفي المقابل، وعلى الرغم من ذلك، فإن المشرعين الأمريكيين ذهبوا لتمرير أي قرارات ضد السعودية؛ بسبب تأثير مجموعات ضغط الأسلحة والمصارف.
في المقابل اتخذت الرياض هذا الموقف من القاهرة في وقت تحتدم فيها أزمة اقتصادية ويحيطها الكثير من الأزمات الخارجية، حيث يؤكد الكثيرون أن وقف إمداد البترول للقاهرة لا يتعلق بالأمر الاقتصادي أكثر من أنه قرار سياسي؛ للضغط على القاهرة في مواقفها السياسية، خاصة بعد تصويت القاهرة لصالح المشروع الروسي في مجلس الأمن الدولي بشأن القضية السورية، حيث عززت تلك الرؤية وقائع سابقة افتعلتها الرياض مع دول عربية، خاصة ما حدث مؤخرًا مع الدولة اللبنانية بعدما أوقفت الرياض المساعدات العسكرية للجيش اللبناني، ولكن في هذه الواقعة كانت الرياض أعلنتها صراحة أن هذا الموقف نابع تجاه تغريد لبنان خارج السرب السعودي.
وبين هذا وذاك يتضح أن اختلاف السعودية في تعاملها مع الموقف الأمريكي والمصري حمل دلالات كثيرة أن الرياض تتعامل مع القاهرة بنظرة الإملاء عن طريق الضغوط بالنفط والمساعدات؛ لكي تتوافق مع موافقها السياسية في المنطقة، في حين اختلفت مع واشنطن وفقًا لرؤيتها ركيزة لاستقرار الحكم فيها، على الرغم من اختلاف تأثير الموقف المصري والأمريكي على السعودية نفسها، فواشنطن تبعث برسائل جاستا لابتزاز المملكة، بينما القاهرة تختلف معها في وجهة نظر حول الأزمة السورية، حيث لم يكن التأييد المصري للقرار الروسي في مجلس الأمن بالمؤثر، وتم رفضه هو والفرنسي؛ بسبب عدم الإجماع عليهما.