إسلام أبو العز
لاذت السعودية بالصمت طيلة الأسابيع الماضية؛ ما بين شهر يونيو الماضي والأسبوع الأخير من الشهر الجاري، وهي الفترة التي تخللها انقلاب السياسة الخارجية التركية المتمثل في الاستدارة التركية البادئة في أواخر يونيو الماضي تجاه كل من روسيا وإيران، وتسريع وتيرتها عقب محاولة الانقلاب الفاشل منتصف يوليو المنصرم، لتتبدل الخارطة السياسية في هذه الفترة القصيرة، وتتحول خصومة تركيا مع روسيا إلى شبه تحالف فيما يخص الملف السوري، كما تصاعد منحنى العلاقات الجيدة بين أنقرة وطهران انطلاقاً من التفاهم المشترك حول مستقبل سوريا والمسألة الكردية هناك، فيما تجمد التحالف السعودي-التركي، الذي كان قد عُقد قبل ما يربو عن العام، والذي فقد مفعوله رسمياً منذ زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى روسيا قبل أسبوعين، وزيارته المزمعة إلى إيران خلال أيام.
إلا أن فترة الصمت السعودي تخللها صيحات تنبيه للحليف التركي المفترض، الذي فيما بدا ويبدو أنه ينطلق في استدارته ناحية موسكو وطهران فيما يخص سوريا تحديداً دون مشاورة الحليف السعودي. هذا الأمر تجلى في تصريحات وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، لصحيفة «بوليتيكو» الأمريكية أواخر يوليو الماضي الخاصة بإعطاء روسيا “حصة أكبر في الشرق المنطقة تفوق ما كانت عليه إبان عهد الاتحاد السوفيتي”، والتي ترجمها معظم المحللين إنها رسالة يأس أكثر من كونها رسالة متعددة الأهداف إلى أطراف متعددة على رأسهم الولايات المتحدة، التي رفعت غطاءها السياسي عن الرياض في السنوات الأخيرة على مختلف الساحات، وهو الأمر الذي شكل دافعاً رئيسياً للتحالف بين المملكة وأنقرة منذ بداية العام الماضي، لتأتي تصريحات الجبير كرسالة قطع طريق على التقارب الروسي-التركي الذي تود بزيارة أردوغان إلى روسيا.
واستمراراً لرسائل التذمر السعودي المبطنة حيال توجهات “حليفها” التركي، جاء ظهور الداعية فتح الله كولن على شاشة قناة «العربية» أمس الأول كضوء أحمر لأنقرة من جانب الرياض؛ فالرجل الذي تتهمه الأولى بأنه المسؤول عن محاولة الانقلاب وتطالب الولايات المتحدة بتسليمه لتتم محاكمته، يظهر على المنبر الإعلامي الأهم لـ”الحليف” السعودي ليقول عن أردوغان أنه “طاغية ومستبد”، وذلك في حوار لمدة نصف ساعة دافع فيه عن نفسه، وقرظ السعودية وسياساتها على عكس سياسات خصمه، أردوغان، الذي أضاف أنه يورط حلفائه ويبيعهم مثلما جرى معه، بصفته هو وحركة «خدمة» التي يتزعمها كانوا حلفاء «العدالة والتنمية» منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى السنوات الأربع الأخيرة.
ويعد كولن العدو رقم واحد للدولة التركية حالياً، والتي اتهمته بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشل في الخامس عشر من يوليو الماضي، وطالب الولايات المتحدة -حيث يقيم هناك- بتسليمه لمحاكمته بتهم يتراوح مجموع أحكامها ما بين تسعمائة إلى ألف ومائتين عام حسب القانون التركي!.
وجدير بالذكر أن شائعات لم يتم التحقق من صحتها تناولت وجود اتصالات بين كولن وجماعته وبين أطراف خليجية، قبيل وعشية محاولة الانقلاب، التي صرح بعدها المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن هناك “أطراف إقليمية دعمت الكيان الموازي”، في إشارة إلى جماعة كولن.
وفي السياق نفسه ادعت وسائل إعلامية مختلفة أن محاولة الانقلاب التركي جاءت بدعم من دولة ?الإمارات، كذلك موافقة سعودية حسب قول المغرد السعودي الشهير «مجتهد».
وتعتبر قناة «العربية» ثاني قناة عربية تعقد مقابلة مع كولن عقب محاولة الانقلاب الفاشلة بعد قناة « الغد» التي يديرها محمد دحلان، الذي يشغل منصب مستشار ولي عهد أبو ظبي.
وجدير بالذكر أيضاً أن «العربية» شهدت تغيرات إدارية ضمن موجة التغييرات التي شهدتها ?السعودية العام الماضي منذ تولي الملك سلمان، لتصبح القناة تحت نفوذ وسيطرة ولي ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يعتبره البعض مهندس التوجهات الخارجية الجديدة للمملكة، والتي في أساسها كان التحالف مع تركيا والتعاون المشترك في عدة ملفات إقليمية على رأسها الملف السوري.
وعلى محدودية وقت هذه الحادثة والتعتيم عليها في مختلف وسائل الإعلام السعودية والعربية الموالية للرياض، فإنها تعطي دلالة هامة بأن المملكة لا يمكنها التحلي بالصمت أكثر من هذا بخصوص التوجه التركي لإيران وروسيا فيما يخص سوريا، وما يعنيه من ترك حليف مفترض -السعودية- وحيد في الميدان السوري وطاولة مفاوضاته، وأن البديل أمامها هو التصعيد الذي قد يعيد العلاقات التركية-السعودية إلى مربع 2013م الذي مثل ذروة الخلافات بينهما. ويشي أيضاً بأن تغيرات جذرية في الموقف السعودي تجاه مسائل عالقة مثل المصالحة المزمع بحثها بين أنقرة والقاهرة، والتي كانت محل جدال كبير طيلة العام الماضي بين الأخيرة والرياض.
وعلى المنوال نفسه فإن هناك ما هو أبعد من مقابلة تليفزيونية مع شخص أثار الجدل مؤخراً مثل كولن، حتى ولو كان هذا في توقيت حرج يشهد تعاون بين تركيا و ?إيران و ?روسيا، سواء كإشارة إلى عدم رضا الرياض عن توجهات تركيا الجديدة في ?سوريا واستدارتها للتفاهم مع خصوم المملكة هناك وعلى رأسهم إيران، أو ما حدث عقب بث المقابلة بساعات من حذفها من على الموقع الإلكتروني للقناة وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، بما فيها فيديو المقابلة من على حسابها على موقع «يوتيوب»، وهو الأمر الذي فسرته بعض وسائل الإعلام الخليجية أنه جاء عقب اعتراض رسمي أو شبه رسمي من الحكومة التركية على بث هذه المقابلة. وهو الأمر الذي يشي بأن هناك تذبذب في موقف السعودية تجاه الحليف التركي، ناتج عن قناعة بأن الصدام مع أنقرة في هذا التوقيت –على عادة السياسة السعودية المرتجلة والعشوائية مؤخراً- لن يضر سوى الرياض وسيسرع من مفاعيل التعاون التركي- الروسي- الإيراني ويقضي على ما تبقى من مفاعيل التحالف المفترض بينها وبين أنقرة في سوريا، وما يعنيه هذا من هزيمة مضاعفة للمملكة ليس فقط على مستوى الأزمة السورية، ولكن على مستوى إقليمي.
الأمر السابق يتمثل في إخفاق السعودية في التوفيق بين أضداد المحور السياسي الجديد/القديم المزمع إحيائه/إنشاءه/تطويره، سواء كان محور يضم دول “سُنية” كبيرة مثل مصر وتركيا، اللتان تفرقهما الخلافات إلى حد العداوة، أو محور يضم دول المنطقة “المعتدلة” والذي يشمل توسيع العلاقات العربية مع إسرائيل للتصدي للمحور المقابل الذي على رأسه إيران؛ وهنا نجد أن توجهات أنقرة الجديدة سواء المصالحة مع إسرائيل أو التوجه لروسيا وإيران ضربت المساعي السعودية على المستويين السابق ذكرهما، وأن احتمالية عودة الأمور إلى ما كانت عليه بعد الثلاثين من يونيو 2013م بين أنقرة والرياض كبيرة، وإن كانت بالطبع ستشهد خفوتاً تفرضه دواعي المأزق السعودي الحالي المتمثل في انعدام الخيارات على مستوى السياسة الخارجية، كذلك تفضيلها عدم التصادم مع تركيا خاصة في وقت تزيد فيه حدة الاستقطابات الإقليمية، والذي قد يأتي بما لا تشتهيه الرياض إذا تصادمت مع أنقرة، والمتمثل في حده الأدنى في عودة المحور التركي-القطري-الإخواني، ولكن هذه المرة لن يكون على صدام مع روسيا وإيران مثلما كان عشية 2011م، وكذلك لا تضمن فيه الرياض موقف حلفائها التقليديين في القاهرة وأبو ظبي من ناحية التعاطي مع المتغير الروسي وخاصة أن البلدين كانا على تحفظ شديد تجاه التحالف السعودي مع تركيا والذي ما فتئت السعودية عن فرضه قهراً عليهما، وخاصة مصر التي عانت من ابتزاز سعودي؛ مفاده المصالحة مع أنقرة والإخوان أو قطع المساعدات المالية عنها.
* كاتب صحفي مصرية “البديل”
Prev Post
Next Post
قد يعجبك ايضا