نظراً لكثرة المؤامرات والإفساد الذي مارسه اليهود ضدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ونقضهم للعهود والمواثيق معه، رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الممارسات اليهوديّة سبباً وفرصةً للتخلُّص من شرِّهم ومكرهم، فكان أوّل عملٍ منه تجاههم هو مواجهة بني قينقاع وإجلاؤهم عن المدينة. والسبب الذي حمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على البدء بإجلاء بني قينقاع من المدينة دون غيرهم هو: أنّهم كانوا يسكنون داخل المدينة، وكانوا أوّل من غَدَرَ وخان من اليهود. ويذكر المؤرِّخون أنّ بني قينقاع كانوا يُمسكون بخيوط اقتصاد المدينة، وأكثر الناس خطراً على المسلمين لأنّهم يعيشون بينهم، ومارسوا الكثير من الأعمال الإيذائيّة، وقاموا بالحرب الباردة (الإعلامية) ضدّهم، ونشروا الأكاذيب والشعارات القبيحة، وأنشدوا القصائد التي من شأنها تحقير المسلمين والإساءة إليهم. وكانوا قد عاهدوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على المسالمة وعدم معاونة الأعداء، فلمّا كانت حرب بدر أظهروا البغي والحسد ونقضوا العهد، وكانوا أوّل من استجاب لطلب قريش في نصب العداء للمسلمين والغدر بهم. وقد صعّدوا من تحدّيهم للمسلمين عندما دخلت امرأة مسلمة سوق الصاغة في المدينة ـ الذي كان تحت سيطرتهم ـ فاجتمع عليها جماعة من اليهود وأرادوها أن تكشف عن وجهها فأَبَت، فعمد يهوديٌّ من خلفها وعقد طرف ثوبها إلى ظهرها، فلمّا قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها، فصاحت تستغيث بالمسلمين، فوثب رجلٌ من المسلمين على من فعل ذلك فقتله، وشدّ اليهود على المسلم فقتلوه، فاستنجد أهل المسلم بالمسلمين، ووقع بينهم وبين بني قينقاع الشرّ، فجمع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اليهود وحذّرهم وطلب منهم أن يكفّوا عن أذى المسلمين ويلتزموا بعهد الموادعة، أو يُنزِل بهم ما أنزله بقريش، فقالوا له: “لا يَغُرَّنّك يا محمّد أنّك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة
مكّنتك من رقابهم، إنّا والله لئن حاربناك لتعلَمنّ أنّا نحن الناس، وسترى منّا ما لم تره من غيرنا”
فأنزل الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المناسبة قوله تعالى: ?قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ?7.
ولذلك لم يبق أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا أن يُقاتلهم، فسار إليهم، وكان عددهم حوالي سبعمائة مقاتل، وسلّم الراية للإمام عليّ عليه السلام، وحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشدّ حصار، فقذف الله في قلوبهم الرعب، واستسلموا، وطلبوا من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يُخلِّي سبيلهم وينفيهم من المدينة، على أن يكون لهم نساؤهم والذريّة، وله أموالهم والسلاح، فقبل منهم ذلك، فوزّع أموالهم وأسلحتهم على المسلمين، وطردهم من المدينة إلى أذرعات بالشام.
Prev Post
Next Post
قد يعجبك ايضا