–
, الاتصال بأكثر من عالم لاستطلاع آرائهم ثم اختيار الإجابة التي تروق للإنسان هو تحايل يرفضه الشرع
كثرت الشكوى في كل بلادنا العربية والإسلامية من ظاهرة تضارب الفتاوى وظهور قوافل جديدة من المفتين في الفضائيات الدينية وغير الدينية يعارضون بعضهم بعضاٍ ويتسابقون في إصابة جماهير المسلمين بالحيرة والقلق والاضطراب عن طريق فتاوى متناقضة . . فما يحله البعض يحرمه البعض الآخر وما يراه بعض المفتين الجدد مطلوباٍ شرعاٍ يضعه البعض على رأس قائمة المحظورات الشرعية .
فكيف يتصرف المسلم البسيط وسط هذه الخلافات بين المتحدثين باسم الشريعة الإسلامية¿ وهل هذه الخلافات الفقهية التي نراها ونشاهدها كل يوم مطلوبة شرعاٍ¿ وهل يجوز للمسلم أن يتجاهل آراء العلماء المختلفين ويعمل بفتوى قلبه¿ وكيف يتصرف المسلم عندما يجد نفسه أمام رأيين متناقضين في قضية من القضايا التي يعاني منها¿
هذه التساؤلات وغيرها مما يتعلق بخلافات العلماء طرحناها على عدد من علماء الشريعة الإسلامية . . فماذا قالوا بشأنها¿
> في البداية: من المفتي الذي ينبغي أن نتوجه إليه بالسؤال لنعرف منه الأحكام الشرعية ويفرق لنا بين الحلال والحرام.
يقول الدكتور عبدالفتاح الشيخ الأستاذ بجامعة حجة : الفتوى مسؤولية كبيرة ومهمة عظيمة والمفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو خليفته ووارثه فالعلماء ورثة الأنبياء ولذلك كان كبار علماء الأمة يخشون الفتوى وكان كثير منهم يفضل أن يرد بعبارة “لا أدري” ويحيلون السائلين إلى من هم أكثر منهم علماٍ وفقهاٍ . أما الآن فقد أصبح يتصدى للفتوى كل من “هب ودب” فنحن نشاهد كل يوم في الفضائيات وفي المساجد مفتين لا يملكون ثقافة دينية ولا بصيرة بأحكام الشرع ولا إدراكاٍ لمشكلات الناس وهؤلاء الذين يتصدون للإفتاء بدون علم يمثلون خطورة شديدة على واقعنا الديني والفكري والثقافي والاجتماعي وعلينا أن نحذرهم وأن نتجنبهم بل علينا أن نواجههم ونحاسبهم على جرأتهم وحديثهم في أمور الشريعة دون علم وبصيرة بالأحكام الدينية الصحيحة .
أزمة أخلاق
إن المسلم مطالب بالبحث عن المفتي الحقيقي لكي يستفتيه فلا ينبغي أن تذهب الجماهير المسلمة إلى الأدعياء لتستفتيهم ولا إلى أصحاب الثقافات المغشوشة الذين لا يستطيعون التفرقة بين الواجب والمباح فعله ولا بين المحرم والمكروه . . الجماهير المسلمة مطالبة شرعاٍ بالبحث عن العالم أو الفقيه الذي يحمل قدراٍ كبيراٍ من العلم بالإسلام والإحاطة بالأدلة والأحكام والمعرفة بالحياة ومشكلاتها . . وإلى جانب العلم الشرعي لابد أن يكون المفتي تقياٍ صالحاٍ حسن السيرة والسمعة بين الناس فلا يصح أن نسأل عالماٍ عن حكم الشرع في التدخين ونحن نشاهده يدخن ولا يجوز أن نستفتي عالماٍ في حكم الشرع في الفوائد البنكية وهو يعلن على الناس أنه يتعامل مع البنوك ذات المعاملات المشبوهة . . فالجانب السلوكي والأخلاقي في المفتي مهم جداٍ والعلم الشرعي وحده لا يكفي للاطمئنان إلى فتوى من عالم معين بل إلى جانب العلم لابد أن نطمئن إلى سلوكيات المفتي وأخلاقه ومعاملاته فآفة الحياة الآن ليست في فساد العقول بقدر ما هي في فساد الضمائر والأزمة التي نعاني منها الآن في مجتمعاتنا الإسلامية هي أزمة أخلاق وليست أزمة أفكار ولا أموال .
ويرى الدكتور الشيخ أن الجماهير المسلمة مسؤولة عن حالة الفوضى التي نعيشها الآن في مجال الإفتاء لأنها للأسف تذهب إلى أنصاف وأرباع العلماء ويقول: الجماهير لا تقوم بواجبها في البحث عن العالم المتمكن . . هي تبحث عن أقرب مفتُ أو أيسر مفتُ أو المفتي الذي يقول لنا ما نريد أن نفعله فبعض الناس لا يريدون الحكم الشرعي الصحيح لكي يسيروا على الطريق الصحيح الذي يرضي الله عز وجل . . لكنهم يريدون المفتي الذي يحقق لهم ما يرضيهم أو ما يتفق مع هواهم .
ويضيف: بعض الناس يخدعون أنفسهم ويتحايلون على الحلال والحرام بفتاوى مغشوشة ومضللة وهؤلاء يجلبون لأنفسهم غضب الله وعقابه .
تحايل مرفوض
والأسئلة المهمة لجماهير المسلمين هي: ماذا يفعل المسلم عندما يختلف العلماء في أمر ما¿ وهل يجوز للسائل أن يعرض مسألته على أكثر من عالم ثم يختار الرأي الذي يستريح إليه¿ ومتى يجوز للمسلم أن يستفتي قلبه¿
يقول الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق: خلافات العلماء من مظاهر التيسير والرحمة والسعة في شريعتنا الإسلامية . . لكن لا يعني هذا أن يبحث الإنسان عن الخلافات ليضع نفسه في حيرة وتردد . . فالمطلوب من المسلم أن يختار عالماٍ يثق فيه ويعرض مسألته عليه ثم يعمل بما يفتيه دون التفات لآراء العلماء الآخرين .
أما المرور على العلماء أو الاتصال بأكثر من عالم لاستطلاع آرائهم ثم اختيار الإجابة التي تروق للإنسان وتتفق مع هواه وتلبي حاجة في نفسه فهذا شكل من أشكال التحايل المرفوض شرعاٍ .
ويؤكد أن ما نعاني منه الآن من فوضى في مجال الإفتاء تتحمل الجماهير مسؤولية كبيرة فيه حيث يلجأ البعض إلى سؤال غير المتخصصين وغير المؤهلين للإفتاء والسؤال في أمور الدين لا يكون إلا للعلماء القادرين على الإفتاء والذين وصفهم الحق سبحانه وتعالى بأنهم أهل الذكر في قوله عز وجل “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” .
أيضاٍ على المسلم أن يتجنب القضايا والأمور الخلافية وأن يحسن السؤال وأن يكون سؤاله عما ينفع . . أي يسأل في واقعة يعاينها هو أو غيره .
وعلى المسلم أن يتقي الله ويراقبه في كل أمر يسأل عنه ولا يلجأ إلى بعض أدعياء الفتوى لاستحلال أمور يعلم بينه وبين نفسه أنها محرمة فهذا نوع من التحايل .
أيضاٍ على السائل أن يعرض مسألته بأمانة فلا يخفي جانباٍ منها ليضلل المفتي ويحصل منه على ما يريد فلابد من عرض المسألة بصدق دون إخفاء جانب منها فإخفاء بعض جوانب السؤال خداع للمفتي يؤدي في النهاية إلى إجابة غير صحيحة .
استفتاء القلب
واستفتاء القلب المنصوص عليه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعني كما يقول الدكتور علي جمعة ترك فتوى العالم والجري وراء هوى النفس فالمسلم مطالب شرعاٍ بالرجوع إلى أهل العلم والتقوى والورع من العلماء لسؤالهم والعمل بما يفتون به وما دامت الفتوى صادرة من عالم متمكن له باع في الفتوى ومحل ثقة فلابد من العمل بها . . لكن لو صدرت الفتوى من إنسان مشكوك في علمه وليس من أهل الفتوى فلا ينبغي العمل بها ولو كان السائل لديه ثقافة إسلامية جيدة وسمع فتوى تخالف ما يعلمه ولا تطمئن إليها نفسه ولا يستريح إليها ضميره فينبغي ألا يعمل بها حتى يتيقن من الموقف الشرعي الصحيح من عالم آخر ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي .
ويوضح جمعة أن استفتاء القلب لا يكون لعامة الناس . . بل استفتاء القلب المنصوص عليه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “استفت قلبك وإن افتاك الناس وأفتوك” يكون لمن لديهم ثقافة إسلامية جيدة يستطيعون من خلالها معرفة الحلال من الحرام . . ففتوى القلب تكون للقلوب المؤمنة العامرة بالعلم والتقوى وليست القلوب القاسية والنفوس التي تستمرئ المعاصي وتدمن الذنوب .
القدرة على المقارنة والتمحيص
الداعية والفقيه الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث بالأزهر يؤكد أن المسلم الذي يحمل من العلم الديني والثقافة الإسلامية ما يمكنه من المقارنة والتمحيص بين آراء العلماء بعد الوقوف على الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها كل عالم لا حرج في أن يعرض مسألته على أكثر من عالم فالله سبحانه وتعالى رسم للمسلم الذي يحمل من العلم ما يستطيع به أن يقارن بين أقوال العلماء والترجيح بينها ومعرفة الأصح والأرجح طريقة للخروج من هذا الخلاف وهو رد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة فقال: “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر” فبحكم هذا الأمر الإلهي فالمسلم مطالب برد المسائل المختلف فيها إلى الكتاب والسنة فما ظهر له رجحانه أخذ به لأن المطلوب من المسلم المثقف ثقافة إسلامية صاحب العقل الواعي أن يعمل بالرأي الذي يعتمد على الدليل .
أما إذا كان المسلم لا يملك العلم الشرعي والعقل المدرب على المقارنة بين آراء واجتهادات العلماء فهو مطالب شرعاٍ بسؤال أهل العلم الذين يوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به وذلك التزاماٍ بقول الحق سبحانه وتعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” .
ويضيف الدكتور عثمان: المسلم مطالب هنا بالبحث عن العالم المتمكن صاحب العلم والتقوى والورع . وكما يبحث المسلم عن أكثر الأطباء خبرة وعلماٍ وثقة وأمانة وإخلاصاٍ لعلاج أمراضه ويذهب إليهم حيث يوجدون ويسافر إليهم في بلاد بعيدة . فعليه أن يختار من العلماء من يحملون هذه الصفة لإرشاده إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي يجلب له رضاء خالقه ويحميه من عقابه .
وعن الذين يبحثون عن المفتين المتساهلين الذين لا يملكون مؤهلات الإفتاء أو المشهور عنهم التساهل في أمور الدين يقول الدكتور عثمان: إذا كان هدف المسلم أن يحصل على حكم شرعي يحقق له هوى في نفسه ويستحل به محرماٍ فهذا الحكم لن ينفعه والأولى له أن يفعل ما يريد دون الرجوع إلى عالم أو داعية فالإنسان غير الحريص على الحلال والحرام لن تفيده فتوى عالم ولن تحميه فتاوى عشرات العلماء لأنه غير صادق وغير مخلص وغير حريص على الحلال والحرام .