انقرة/وكالات
كلّ ما يمكن أن يقال عن «الانقلاب» في تركيا يمكن أن يكون صحيحا، إلا أن يوصف بأنّه «انقلاب» بالمعنى التقليدي الكلاسيكي لمفهوم «الانقلاب» العسكري السياسي الذي يحصل عادة فيها.
على الرغم من أنه قد يبدو في ظاهره أنه أكثر حركة عسكرية سياسية حصلت في تاريخ تركيا، قياسا على ما حصل ميدانيا بالمعنى العسكري، إضافة للمناخ الذي كانت قد وصلت إليه تركيا سياسيا، وفي ظل تحولات إقليمية ودولية كبيرة، كانت كلها تستدعي وقوع «انقلاب» عسكري في تركيا، مقارنة بالتاريخ التركي المليء بمثل هذه المحطات العسكرية السياسية.
بعيداً عن مجريات العمليات الميدانية التي جاءت غريبة وغير متجانسة، أو غير منسجمة مع العنوان الحقيقي للـ«انقلاب»، طيران يقصف البرلمان، وهي إشارة كبيرة ومهمة من جهة أن عدوانا يحصل على الديمقراطية في تركيا، إضافة لاستعمال الطيران في مواقع وحلقات عسكرية ومدنية أخرى، من رئاسة الأركان إلى مواقع الاستخبارات إلى الشارع الذي كان فيه الجيش ينتظر خروج المواطنين، إلى «منع تجوال» كان لا يرمي إلا إلى أن يكون هناك «تجوال»، وبالتالي دفع الناس إلى الشوارع!!..
لا نميل إلى أن «أردوغان» كان قد أعدّ مثل هذا «السيناريو»، لأنه كان يمكن أن يعده بحركة أقل مما حصل، من جهة أن هناك أموراً وصلت حدّ الفلتان، وكان يمكن لأي شيء أن يحصل، وخاصة أن «أردوغان» شخصيّا كان مهدّدا وبشكل خطر وكبير، كما أن هناك عشرات القادة العسكريين الذين مازالوا محتجزين والدولة لا تعرف عنهم شيئا، بمعنى آخر، نرى أن ما حصل لم يكن إلا حركة حقيقية دفعت بها أطراف معينة ومحدّدة لوضع تركيا في مكان ما، أو دفعها كي تكون في مشهد ما..
لم تستطع الإدارة الأمريكية طوال الفترة الماضية أن تلزم «أردوغان» بشيء، في ظل متحولات مهمة وكبيرة كانت تحصل على مستوى المنطقة والإقليم، وفي ظلّ موقف تركي يريد أن يغرد خارج السرب الأمريكي، فالإدارة الأمريكية مشغولة مع «صديقها الدولي»، نعني به الروسي، بإعداد مسرح استقرار المنطقة، تماشيا وتوازيا مع ناتج اشتباك قبلت به الإدارة الأمريكية، ولم يقبل به «أردوغان»، لأنه شعر بأن التوافق أو التفاهم، أو أن خريطة استقرار المنطقة لن تحمله في المرحلة القادمة، وهو بالتالي ظلّ يسعى ويستثمر في بيئة مشهد الاستقرار التي كان يعدّها الروسي والأميركي وبعض القوى الإقليمية والدولية الأخرى..
كنا قد تحدثنا كثيراً في فترات سابقة، عن ناتج اشتباك إقليمي قنعت به الإدارة الأمريكية، لكنّ كانت مضغوطا عليها جداً باتجاه صرفه مقابل ملفات أخرى موجودة في أكثر من موقع على مستوى مشهد الاشتباك الأكبر الذي تخوضه الدول الكبرى، إلا أن فعل عطالة تركية كان يدفع باتجاه بيئة مشهد مخالفة تماما لما كان يدفع أو يتطلع إليه الروسي والأمريكي..
إنّ «أردوغان» كان يدرك تماما أن أي توافق إقليمي ضمن المعطيات الطبيعية لا يمكن له أن يحمله، وهو بالتالي بحاجة إلى استثمار جديد في فوضى المنطقة وفي لحظة اشتباكها، من أجل تحسين شروط موقعه على خريطة التوافقات الكبرى، وهو ما أثار حفيظة الأمريكي، في ظلّ انزعاج روسي كبير كان يعبّر عنه دائما، إضافة إلى مواجهات وصلت حدّ الاشتباك المباشر بين الروسي والتركي..
لم تستطع الإدارة الأمريكية أن تأتي بـ«أردوغان» إلى بيت الطاعة من جديد، ولم تستطع أن تهذّبه في ظل ما كان يحصل، وخاصة أنّ هناك ضغطا على كل الأطراف الأخرى التي تحاول أن تتبع إستراتيجية «أردوغان» للدخول في لحظة التوافقات كي تستفيد بطريقتها، فـ«مملكة آل سعود» تمّ حصارها بعناوين أخرى، مالية واقتصادية وحتى ثقافية وجنائية، ومن الإدارة الأمريكية ذاتها، وهو الأمر الذي دفع «المملكة» للذهاب بعيداً في مواقفها، كي تستطيع أن تتخلّص من هذا «الحصار الأمريكي والأوروبي»..
لم يكن أمام الإدارة الأمريكية، وأمام استخباراتها تحديدا، إلا أن تأتي بـ«أردوغان» مرغما إلى بيت «الطاعة الأمريكي»، ومن جديد، ولم يكن لذلك أن يحصل إلا من خلال هذا السيناريو الانقلابي، فالإدارة الأمريكية أرادت أن تدفع بـ«أردوغان» إلى لحظة حرج كبير، يمكن له أن يفقد كلّ شيء فيها، وأن يتحول إلى طريد أو سجين في قبضة الانقلابيين، وكان مطلوبا أن تصل الرسالة خلال ساعات، وفعلا لقد وصلت الرسالة..
مسرح وسيناريو الانقلاب مطلوب أن يكتمل، فـ «أردوغان» يتّهم «غولن»، والإدارة الأمريكية توضّح وتردّ، ولا بأس في أن ينهي «أردوغان» مجموعة من خصومه، ولا بأس في أن يقدّم نفسه البطل القومي، المهم بالنسبة للإدارة الأميركية أن تركيا لم تزل في «بيت الطاعة الأمريكية» بلا شغب جانبي!!!…
Prev Post
Next Post