الثورة نت /..
يشكل دور روسيا المتنامي على الساحة الدولية مصدراً لقلق وأرق الغرب عموماً، والولايات المتحدة والمملكة المتحدة خصوصاً
؛ إذ يحاول حلف شمال الأطلسي الحد من النفوذ الروسي عالمياً، وخصوصاً في دول أوروبا الشرقية والشرق الأوسط.
إن تضييق الناتو على موسكو لم يعد اليوم عسكرياً أو سياسياً فقط، بل تعداهما إلى الجانبين الاقتصادي والإعلامي. وخير دليل على ذلك – اللقاءات التي عقدها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع قادة الدنمارك وفنلندا وإيسلندا والسويد الشهر الماضي في واشنطن؛ لأن لتلك الدول حدودا مع روسيا، وذات موقع استراتيجي بالنسبة إلى الحلف في أي مواجهة مع موسكو.
كما أن حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل عدة أيام عن استراتيجية الناتو في شرق أوروبا يعدُّ جرس إنذار عالميا؛ لأن ما يقوم به الحلف على الحدود الشرقية لروسيا يزعزع التوازن الاستراتيجي في البلطيق وشرق أوروبا، وخصوصاً أن الولايات المتحدة تتعمد لعب آخر بيادق رقعة الشطرنج بعيداً عن أراضيها، في خرق واضح لاتفاقية التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، التي وقعتها موسكو وواشنطن في عام 1987.
فالتلميحات الأمريكية من الخطر “الوجودي”، الذي تشكله روسيا على دول شرق أوروبا، ليست سوى حيلة لضمان وجود القوات الأمريكية في تلك الدول، وابتزازها عبر بيعها أسلحة أمريكية الصنع. وقمة الناتو المقبلة في 7-9 يوليو، والتي ستدعم نشر 4 كتائب على الحدود مع روسيا، تعني حرباً باردة من نوع جديد، وقودها دول البلطيق وأوروبا الشرقية.
الإعلام الغربي والعمى السياسي
حملة غربية واضحة ضد روسيا، يدل عليها ما قاله الكاتب كير غيليس في مقال بصحيفة “وول ستريت جورنال” من إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفضل أن يواجه خصومه من الدول على أساس ثنائي، وليس في ظل وجودها في تكتلات وأحلاف. وهذا ما يوفره له الخروج البريطاني من الاتحاد، وما يدعم ضغطه على النظام التركي للخضوع لسياسته.
كما أن ما نشرته مجلة “فورين أفيرز” من تصريحات للقائد السابق لقوات الناتو فيليب بريدلاف بأن روسيا تشكل خطراً وجودياً على دول أوروبا الشرقية، وأنه ينبغي معرفة كيفية التعامل مع هذا الخطر بشكل منظم أكثر وتسليح أكبر، يمثل حالة من عمى الألوان، التي تعانيها قيادات أوروبية مستغلة وسائل إعلامية للترويج لتلك المخططات للزج بشعوبها في حروب لا طائل منها سوى بيع مزيد من السلاح الغربي لتلك الدول.
وكان بريدلاف قد قال إن روسيا هي مصدر الخوف والقلق ليس لأوروبا الشرقية والبلطيق فحسب، بل وللعالم أجمع؛ مطالباً بمواجهة هذه “التحديات” وتعزيز موقف واشنطن من هذا “الخطر العالمي الدائم”.
والغريب في الأمر أن صحيفة “واشنطن بوست” تقول في تحليل لها إن حالة الفوضى التي سادت عقب انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي كانت خسارة للولايات المتحدة ومكسبا للرئيس الروسي بوتين؛ مؤكدة بذلك تصريحات السفير السابق للولايات المتحدة لدى روسيا مايكل ماكفول بأن بوتين يستغل أي نقطة ضعف غربية لحسابه.
فالغرب هنا يحاول ببساطة أن يُظهر أن كل مشكلات العالم وراءها روسيا من باب شيطنتها وشيطنة قياداتها، التي استطاعت خلال أقل من 25 عاماً من النهوض ثانية لتصبح قوة عظمى يهابها الجميع.
ما مدى تأثير حالة الضعف التي يعانيها الغرب على نفوذ روسيا في العالم؟
لقد قامت تركيا بدورها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كتابع للغرب، تُنفِذ كل ما يطلب منها. وما كان ضمها إلى معسكر “الناتو” إلا لمحاصرة الاتحاد الروسي، وتوظيفها كرأس حربة للغرب. وما تقارُب تركيا من روسيا هذه الأيام إلا من قبيل فك العزلة المفروضة على النظام التركي ومشروع تفتيت تركيا وتفكيكها. وهي خطة قديمة بريطانية-فرنسية. واليوم، يبدو أن سياسة الحكومة الأمريكية الحالية والمقبلة، في حال فوز المرشحة هيلاري كلينتون، ستكون إحياء سياسات بوليسية لتكريس العداء لروسيا باعتبار أنها، حسب زعمها، “تهدد السلم العالمي”.
ولو فرضنا جدلاً أن ما تقوله الإدارة الأمريكية صحيح، فهل هناك سفن وغواصات حربية روسية ترابط قبالة الشواطئ الأمريكية وغيرها؟ أم أن الولايات المتحدة وغيرها من دول الحلف هي التي تمتلك قواعد عسكرية وسفناً وبوارج حربية تحاصر الشواطئ الروسية وتهدد أمنها القومي؟
واليوم، وبعد النجاح الذي حققته روسيا في مكافحة الإرهاب، اضطرت واشنطن وغيرها إلى الرضوخ للمطالب الروسية، وخصوصاً بعد بدء ما يرى فيه بعضٌ تفككاً لمنظومة الاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا. ولم تعد سياسة محاصرة روسيا مجدية. فقد قالت صحيفة “واشنطن بوست” إن أوباما تراجع للمرة الثانية أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منطقة الشرق الأوسط.
وعقب إسقاط تركيا القاذفة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تصاعد نجم أردوغان إلى عنان السماء، ولكنْ سرعان ما ثبت أن ما تصاعد لم يكن سوى “دخانِ سلطانٍ” عاد إلى قمقمه عقب أول هزة عصفت به وبحكومته. لقد تمكنت تركيا خلال أكثر من 20 عاما من اللعب بدول المنطقة بدعمها “الإخوان المسلمين” وتطويعهم لخدمة أجندتها؛ وها هي اليوم ترضخ للضغوط الروسية، التي أجبرت تركيا على الركوع والرجوع إلى جادة الصواب والاعتذار وقبول الشروط الروسية للسماح ببدء تطبيع العلاقات معها، والتي لن تكون فورية حتماً.
ذلك النصر للرئيس بوتين وإدارته للأزمة جعلت من روسيا دولة محورية في حل النزاعات، وأظهرت ألا حل عالميا لأي أزمة من دون إشراك روسيا؛ لأنها تتعامل مع القضايا الأممية بشكل حيادي وعادل.
لذلك، فإن خروج تركيا من عباءة الناتو ولو مرحلياً في المقبل من الأيام في سبيل مصالحها مع روسيا، سيدفع بها إلى قبول ضبط الحدود والتنسيق مع الجانب الروسي في قضايا مكافحة الإرهاب؛ ما يعني حتماً تحييد تركيا عن بقية الدول التي رعت الإرهاب ومولته ودعمته بالمال والعتاد والمسلحين.
وهذا هو جوهر النصر الذي يخشاه الغرب. فالتفاهم بين روسيا وتركيا، كما قال مركز “ستراتفور”، هو تفاهم تكتيكي فرضته الأحداث الأخيرة في تركيا بسبب بدء الغليان الشعبي ضد أردوغان وضد الكساد الاقتصادي الذي سببه شح النشاط السياحي؛ ما أجبر تركيا على اللجوء إلى روسيا لإنقاذها من هذا المأزق مقابل الانصياع لما تريده موسكو.
وهذا نصر لم تضطر معه موسكو للجوء إلى سلاح نووي لإخضاع الحكومة التركية وتحويلها عن مسارها الخاطئ في رعاية الإرهاب.
وإن عودة تركيا إلى المربع الروسي تعني عدم تدخلها في الشأن السوري، وعدم معارضتها العملية الروسية في سوريا.
المصدر : شهاب المكاحلة – واشنطن