المروءة

آخره عتق من النار  

المروءة سجيةٌ جُبلت عليها النفوس الزكية، وشيمةٌ طبعت عليها الهمم العلية، وضعفت عنها الطباع الدنية، فلم تطق حمل أشراطها السنية. إنها حلية النفوس، وزينة الهمم، فما هي حقيقتها؟
إن حقيقة المروءة هي اتصاف النفس بصفات الكمال الإنساني التي فارق بها الحيوان البهيم، والشيطان الرجيم، إنها  غلبة العقل للشهوة، وحدُّ المروءة؛ استعمال ما يُجمل العبد ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه، سواءٌ تعلق ذلك به وحده، أو تعداه إلى غيره.
قال بعض السلف: خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقول، وخلق ابن آدم وركّب فيه العقل والشهوة، فمن غلب عقله شهوته التحق بالملائكة، ومن غلبت شهوته عقله التحق بالبهائم.
وإذا علمنا أن المروءة هي استعمال كل خلق حسن، واجتناب كل خلق قبيح؛ فإن لكل عضو من الأعضاء مروءة على ما يليق به؛ فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه، ومروة الخلق سعته وبسطه للحبيب والبغيض، ومروءة المال بذله في المواقع المحمودة شرعًا وعقلاً وعرفًا، ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان تعجيله وتيسيره، وعدم رؤيته، وترك المنة به.
وهذه هي مروءة البذل والعطاء، أما مروءة الترك فتعني ترك الخصام والمعاتبة، والمماراة، والتغافل عن عثرات الناس.
وإن أعظم دواعي المروءة شيئان؛ أحدهما علو الهمة، والثاني شرف النفس.
أما علو الهمة فلأنه باعث على التقدم والترقي في المكارم أنفة من خمول الضعة، واستنكارًا لمكانة النقص، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها”.
وقال عمر رضي الله عنه: “لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمة”.
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ
وأما شرف النفس فبه يكون قبول التأديب، واستقرار التقويم؛ فإن النفس إذا شرفت كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة، وعن الدنايا والرذائل نائية.
وقيل لسفيان بن عيينة: قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ففيه المروءة، وحُسن الأدب، ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ) صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين. ودخل في قوله: (وأْمُرْ بالعُرفِ): صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغضُّ الأبصار، والاستعداد لدار القرار. ودخل في قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ): الحض على التخلُّق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزُّه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهَلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة.
وقال الشعبي: “تعامَل الناسُ بالدِّين زمانًا طويلاً، حتى ذهب الدينُ، ثم تعاشروا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعاشروا بالحياء، ثم تعاشروا بالرغبة والرهبة، وأظنُّه سيأتي بعد ذلك ما هو شرٌّ منه”.
وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين: “كمال المروءة: الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن تدبير المعيشة”.
وقال ميمون بن ميمون: “أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودُّد، والثالث: قضاء الحوائج”.
وقال ابن سلام: “حدُّ المروءة: رعْيُ مساعي البرِّ، ودفع دواعي الضر، والطهارة من جميع الأدناس، والتخلُّص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوْم، ولا يلحق به ذم، وما من شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا، ويبعث على شرف الممات والمحيا، إلاَّ وهو داخل تحت المروءة.

قد يعجبك ايضا