
عرض/ صالح البيضاني –
قراءة في افريقانية اليمن الموسيقية
في إطار اهتماماته البحثية بالموسيقى العربية صدر للباحث الموسيقي اليمني الدكتور نزار غانم كتاب حمل عنوان(الرقصات الافرو يمنية)وهو كما يصفة المؤلف بحث في افريقانية اليمن الموسيقية حيث يحاول المؤلف من خلال هذا الكتاب وفي سياق اهتماماته التي تنصب في البحث عن أسباب ومظاهر التماذج الفني بين الجزيرة العربية وشرق إفريقيا .. الكتاب قدمه الدكتور أبوبكر القربي وزير الخارجية اليمني الذي تحدث عن اهتمامات المؤلف وخلفياته الثقافية التي شكلت أساسا متينا استند عليه المؤلف في حصيلة بحثه حيث يملك ” المؤلف قدرات إبداعية عديدة سواء في كتابة الشعر والتلحين والغناء ,إضافة إلى اهتمامات واسعة في الموسيقى سواء في تتبع منابعها وتأثرها عند الانتقال من بيئة إلى أخرى , ولا شك إن هذا الكتاب إنما يأتي تتويجا لكتاباته حول التمازج السوداني – اليمني في العديد من المجالات سواء فيها الثقافي أو الاجتماعي فاليمن كانت منذ قديم العصور همزة الوصل بين الجزيرة العربية وإفريقيا السوداء كما كانت طريق البخور بين آسيا وشمال الجزيرة العربية وأوروبا. إذن فاليمن قد تأثرت عبر التاريخ بموقعها وبما أتاها من تراث آسيا وإفريقيا وهو ما يتجلى في التراث الثقافي والفني في شرق اليمن وغربه”.
يبدأ المؤلف كتابه بتقديم موجز مختصر لصورة التلاقح الثقافي بين الجزيرة العربية وأفريقيا الأمر الذي افرز بحسب المؤلف رقصات شعبية يمنية تدين بأصولها إلى البر الزنجي المواجه لشبه جزيرة العرب وهو التأثير الذي يقول المؤلف انه ظل على مدى التاريخ المؤيد بالشواهد المادية التي تقدمها لنا علوم الآثار والعلوم الأخرى المساندة لعلم التاريخ ويعود هذا التأثير بحسب المؤلف لعدة عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية يأتي على رأسها حركة التجارة وتبادل السلع المختلفة التي نشطت معها التحركات الديمغرافية على شكل هجرة للآخر أو احتلال له وهو الأمر الذي افرز بطبيعة الحال العديد من المؤثرات الثقافية ومنها الفنون التعبيرية الأدائية من موسيقى ورقص وغناء في الاتجاهين معا. وفي هذا السياق يتحدث المؤلف عن التأثير الكبير لعامل مهم في أوقات سابقة من التاريخ وهو تجارة الرقيق كنشاط اقتصادي مستقل دام حتى العصر الحديث ليختفي نهائيا في القرن الميلادي العشرين بعد أن قام المستعمر البريطاني في عدن بحملات على هذه التجارة.
وعن مظاهر التأثير الإفريقي على الفنون في الجزيرة العربية يشير المؤلف إلى الدراسات المبكرة التي تحدثت عن الرقصات (الأفرو- خليجية) التي قام بها باحثون محليون وعرب ومستشرقون . وفي هذا السياق يتحدث المؤلف عن الإشارات الواضحة في كتاب التراث العربي للتأثير الزنجي في الموسيقى والفنون العربية منذ وقت مبكر ومن ذلك ما ذكره الدكتور محمد عبد المجيد عابدين في كتابه (العرب والحبشة) من أن عرب الحجاز أخذوا عن الحبشة رقصة (الحجل) وما ساقه الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه (القيان والغناء في العصر الجاهلي))من أن تسمية الجارية المغنية بالقينة في العصر الجاهلي ربما كان مشتقا من (القنين) وهو (طنبور) أهل الحبشة. ويواصل المؤلف هنا إيراد الشواهد التي يؤكد من خلالها على عمق التأثير للفنون الإفريقية على الفنون العربية حيث يذكر على سبيل المثال أن لفظة ( سنجك) كانت أقدم إشارة إليها في العصر الفاطمي بمصر حيث أن (الطبلخانة) أو فرقة الموسيقى العسكرية في عهد السلطان غياث الدين الغوري ( ت 1022م) كانت تضم السناجك السلطانية والخليفية . ومن الشواهد التي يسوقها المؤلف في هذا المضمار ما ينسبه لزمان الدولة العباسية حيث يقول الجاحظ(ت 869م): ( الزنج أطبع الخلق على الرقص الموقع الموزون والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون من غير تأديب أو تعليم وان من تمام آلة (الزمر) أن تكون الزامرة سوداء) . وهو شبيه لما قاله في ذلك المفكر ابن خلدون (ت 1405م) .
كما يتحدث النسابة ابن حبيب البغدادي ( ت 860م) في كتابه (المحبر) عن غرابي قبيلة عك غلامين أسودين يتقدمان وفد قبيلتهم وقد أشرف على الوصول من مضاربه في تهامة اليمن إلى مكة للحج ويكونان عريانين على جمل يقولان ( نحن غرابا عك ) فينشد الناس من خلفهم : –
عك إليك عانية
عبادك اليمانية
كيما نحج الثانية
على الشداد الناجية
ويذكر المؤلف أنه من أقدم الإشارات التي صادفها عن تميز الغناء الذي يؤديه السود في اليمن ما قيل بأن المطرب العباسي أبا القاسم إسماعيل بن جامع كان يغني فيما يغني للخليفة العباسي هارون الرشيد(ت 809م) أغاني النسوة السود في اليمن .ويذكر المؤلف في ذات السياق العديد من المصادر اليمنية التي تحدثت عن أثر ذوي الأصول الإفريقية في السواحل اليمنية تحديدا في الموسيقى والرقصات اليمنية التي تؤدى حتى اليوم من قبل الزنوج القادمين من البر الشرقي للقارة السوداء والذين احترفوا فنون الترفيه الموسيقي كما وصفهم الرحالة الألماني فون مالتزان عام 1872م والرحالة النمساوي أدوارد جلازر الذي تجول في اليمن ما بين عام 1885م وعام 1908م قد كتب عن اشتغال فئة الأخدام في اليمن بالترفيه الموسيقي وكيف أنهم يتكسبون بعزفهم على الطبول والمزامير.
ويخلص المؤلف في هذا الجانب إلى العديد من الاستنتاجات حيث يقول:” ونستطيع القول أن جميع المجاميع الزنجية الأصل في اليمن قد فقدت مع الزمن رابطتها الاثنية بالقارة السوداء وتيمننت تماما , وقياسا على ذلك فان ما تقدمه اليوم من فنون أجدادها قد طرأ عليها الحذف والإضافة تطبيقا للمقولة الانثروبولوجية المعروفة من أن الحضارات عندما تقتبس مكونات ثقافية خارجية تفد عليها فإنها في الآن ذاته تعيد إنتاج هذه المكونات وتلبسها حلة جديدة وعناصر مستحدثة بحيث تتمكن في النهاية من إدماج الوافد كلية في المحيط الثقافي والوسط الاجتماعي الجديد”.
الرقصات اليمنية..دراما الحياة والتاريخ:
بعد محاولة الدكتور نزار غانم في كتابه(الرقصات الافرويمنية)تقديم تمهيد لعوامل ومظاهر التأثير العربي الإفريقي المتبادل في مجال الفنون يبدأ في الحديث التفصيلي عن مظاهر ذلك التأثير من خلال تقديم حديث مفصل عن كل رقصة ذات تأثير إفريقي كما هو الحال مع رقصة (الطنبرة) والتي يقول المؤلف أنها تعرف في أجزاء من الخليج العربي برقصة (النوبان) نسبة لمنطقتها الإفريقية الأصلية وهي بلاد النوبة شمال السودان. ويعتبر طقس (الزار) لصيقا بهذه الرقصة وما يصاحبها من دراما غنائية .
كما يتحدث المؤلف عن الآلة الوترية المميزة لرقصة الطنبرة وهي آلة (السمسمية) أو آلة (الطمبرة) الأكبر حجما وكلاهما سليل لآلة عرفت في النقوش السبأية هي آلة (الكنارة). ويحاول المؤلف استعراض ماقيل عن بدايات هذه الإله وكيف أخذت مكانها في الرقصات التقليدية ذات الطابع الإفريقي حيث يذكر المؤلف أن العام 1917م شهد نشر البريطاني آر.سكيني ما يفيد أن إيقاع(النوبي) إيقاع لرقصة طنبرة الزار الذي أحضره الجند السودانيون الموجودون هناك.
ويورد المؤلف في هذا السياق عشرات المصادر العلمية والفنية والتاريخية التي تحدثت عن هذه الإله باعتبارها سيدة الآلات الموسيقية البحرية.
يتحدث المؤلف بعد ذلك عن رقصة (الليوا) . حيث يقول أن أول ذكر لها وقف عليه كان في أربعينات القرن المنصرم حيث ذكر المؤرخ حمزة لقمان أنها رقصة فئة زنجية هي (الجبرت) في عدن في ذلك الوقت . ويضيف أن الجبرت جماعة يمنية أصيلة وان بدت ملامحهم زنجية دنكلية في نظر علماء الأجناس البشرية. كما يشير الباحث اليمني عبدالله صالح الحداد إلى وجود رقصة الليوا في سقطرى ويقدم العديد من التفسيرات لكلمة الليوا منها :-
– هي اسم مبتكر الرقصة في مدينة مومباسا الكينية أو نسبة لقبيلة اللو الكينية وتسمى هناك (كي ليواه)
– تعني ليوا باللغة السواحيلية احد أمرين : فأما تعني اليوم مثل قولهم ( هيا يا ليوا هيا) أو تعني الشرب أي شرب الخمرة مع نشوة الاحتفال بالرقصة وقبلها
– هي دائرة الرقص أو ما يعرف خليجيا بالمكيد
– هي تصحيف لكلمة لواء العربية وهو العلم الذي كثيرا ما نراه منصوبا عند الحفلة ويدور الراقصون حوله
– يقترح الباحث والقاص اليمني المعاصر حسين سالم باصديق إنها اختصرت من عبارة كثيرا ما يرددها البحارة اليمنيون هي ( والليله واه) أي ماذا معنا الليلة أو كيف سنسمر الليلة ¿
كما يتحدث المؤلف عن العديد من الرقصات اليمنية ذات الطابع والأسلوب الإفريقي مثل رقصة (البامبيلا) , والتي يقول انه لا معنى لها حتى في السواحيلية , ويعتقد أن الرقصة قدمت إلى مدن الشحر والمكلا في الثلاثينات من القرن المنصرم مع البحارة الأفارقة الذين ما زالوا هم أكثر من يرقصها ويجيدها.
ويتحدث المؤلف في ذات السياق كذلك عن رقصة( زامل وشرح العبيد أو المماليك أو الموالي ), وهي الرقصة التي ذهب الفقيه الحضرمي علي احمد سعيد باصبرين إلى تحريمها كونها منافية للإسلام وحمل على آلة المزمار المسمى العنفيطة وهو المزمار ذو القصبتين وسمى رسالته في ذلك ( الانفتاح في تحريم المزمار وآلات اللهو الأخرى) ويذكر الباحث اليمني سامي محمد بن شيخان أن هذه الرقصة توجد في مدينة غيل باوزير في حضرموت خلال الأعياد والزيارات السنوية والموسمية وتبدأ مثلا من جامع غيل باوزير في يوم الزينة أي أول أيام العيد بعد أداء الصلاة ويكون الراقصون في آخر الموكب الذي ينتهي أمام حصن الأزهر بالغيل مرورا بشوارع الغيل أو عبر الصرك أي الشارع الرئيسي.
كما يذكر المؤلف العديد من الرقصات الأخرى كرقصة (السواحيلي) وهي رقصة نسائية سريعة في حضرموت تؤدى في الأعراس وتتميز يايقاعاتها السريعة وتقول النساء في حضرموت أن أكثر من يجيدها هن النساء السواحيليات ومن هنا جاءت التسمية .
و رقصة (الميدان) التي تنحصر في منطقة سيحوت بالمهرة على الحدود العمانية حيث يقوم أحفاد فئة العبيد هناك بالرقص والضرب على طبل يعرف بطبل الميدان يقدسونه وتكون الرقصة يوم 16 من شهر ذي الحجة .
و رقصة (الدحيفة) في خنفر بأبين والتي يصف المستشرق البريطاني روبرت سارجنت مشاركة فئة الأخدام فيها بقوله : ( يقوم خادم من الأخدام بأداء الموسيقى بالقرية ويكون عادة من مدينة زبيد بتهامة ومعه مزمار وترافقه النساء بالدفوف وهي نوع من الطبول أربعة في مجموعها ويدق عليها بالأصابع ويزدحم المكان بجمهور من رجال القبائل ومن فئة الحجور وترقص إحدى النساء الأخدام مع الرجل داخل الدائرة إلا أنها حركات معقدة بالفعل ).
أما رقصة (الحجور أو شرح الصبيان) فيقول عنها المؤلف انه يقدم هذه الرقصة مواطنو منطقة وادي حجر بحضرموت وهم شديدو السواد من أصل إفريقي وتشترك فيها المرأة مع الرجل إذ تقف النساء قبالة الرجال ثم يأخذون في الغناء والرقص بشكل غريب جعل المؤرخ اليمني المعاصر محمد بن هاشم يشبهها برقصة النار التي يقيمها زنوج إفريقيا عند افتراسهم القرابين.و الصبيان يقعون في أسفل السلم الاجتماعي كما يقيمون رقصتهم هذه في مدينة المكلا ضمن أهل حي الشرج.
ومن الرقصات الشهيرة التي تقدم في حضرموت اليمن ويشير إليها الدكتور نزار غانم في نهاية كتابه رقصة (الدربوكة) وهي رقصة في حضرموت تمثل دراما الصيد والمرسى كما يصفها المؤلف وأبرز من يرقصها بحارة السفن الشراعية الأفارقة الأصل لا سيما قبل النزول إلى البحر .