علي بن محمد الفران –
يحتل الوقف موقعه المتميز في التشريع الإسلامي للأعمال الخيرية التي حض الإسلام عليها فهو يعد من أبرز أساليب إنفاق الأموال في وجوه الخير.
ونتيجة لذلك التقدير الإسلامي الكبير للوقف نظرياٍ وعملياٍ فقد جادت نتائجه وآثاره الخيرة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على نفس المستوى من المكانة والأهمية.
بل لا نبالغ إن قلنا إن مؤسسة الوقف في اليمن لم ينافسها أو يضارعها مؤسسة أخرى من حيث الآثار الإيجابية المتعددة والمتنوعة على المجتمع عبر عصوره المختلفة يستوي في ذلك عصور الازدهار وعصور الاضمحلال.
ومن خلال صفحات الدين والحياة سنستعرض تباعاٍ الدور الاقتصادي والاجتماعي للوقف في اليمن مبتدئين بدوره في مجال التعليم :
الوقف والتعليم:
إن التنمية تعنى أول ما تعنى ببناء الإنسان عن طريق الثقافة والتعليم وإن هذا البناء التربوي أفضل وأبقى من الإنجازات المادية لأن المنجزات المادية تكون عرضة للانهيار وسرعان ما يمكن إعادتها من جديد إذا وجد الإنسان الكفء القادر الذي هو أغلى من الموارد وأكثرها عطاءٍ فبناء الإنسان وتسهيل عملية التعليم والتدريب له هو غاية التنمية وأهم مؤشراتها.
إضافة إلى ذلك فإن التعليم إحدى القوى المحررة للأفراد والمجتمعات لأنه يزيد من طموح الأفراد ويدفعهم إلى الصعود في السلم الاجتماعي كما أن التعليم يساعد الطبقات المحرومة في المجتمع على الالتحام ببقية الطبقات واللحاق بركب التقدم عن طريق المطالبة بتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية وبهذا يتحقق جانب كبير من جوانب التنمية.
إن المتتبع لتاريخ الوقف والتعليم في اليمن يتبين أن التعليم في اليمن بدأ بعد الإسلام وكان التعليم والتدريس في بادئ الأمر يتمِان في نفس مباني المسجد وبمرور الزمن تمِ في بعض المساجد تخصيص أمكنة أو غرف معينة من مباني المسجد أو المباني الملحقة بها أو المجاورة لها لمهام التعليم والتدريس وهكذا ظهرت المعلامة والهجرة إما ملحقة بالمسجد أو مبنية بجواره كما ظهرت المدارس المسجدية التي كانت عبارة عن مساجد ضخمة ذات طوابق تضم فصولاٍ للتدريس ونْزْلاٍ مجانية لسكن الطلاب والمعلمين والعمال القائمين على خدمة المسجد والمدرسة وذلك في الدول اليمنية التي اهتمت بهذا الجانب كالرسولية والطاهرية.
ولما كان الفقهاء قد أجازوا الوقف على طلبة العلم والمدارس التي يتلقون فيها والمصادر العلمية التي يعتمدون عليها واعتبروا ذلك من أفضل وجوه البر وأنه يعادل الجهاد في سبيل الله استنادا إلى الأحاديث النبوية التي ترفع منزلة العلم والعلماء وتضعهم في مصاف المجاهدين والشهداء.
فقد كان لهذا المعنى أثر كبير في نفوس أهل الخير والفضل في أن ينفقوا أموالهم في رفد الحركة العلمية والوقف عليها أموالاٍ وغلات ومكتبات .
وقد أنشئت المدارس العلمية والمراكز الثقافية لتؤدي وظيفة التعليم والتربية ومع ذلك أقيمت فيها الشعائر الدينية واتخذت مسجداٍ تقام فيه الصلوات المفروضة لتؤكد مدى الارتباط الروحي بين أداء العبادة والقيام بواجب العلم والدراسة.
وانتشرت المدارس الخيرية في جميع أنحاء اليمن ويْعد الوقف الممول الوحيد للعملية التعليمية حيث ساهم في إنشاء المدارس وملحقاتها وهجر العلم ومعاقله والمدارس الملحقة بالمساجد بناء المدارس وصيانتها وعمارتها وترميمها بالإضافة إلى نفقات العاملين بها من مدرسين ومعيدين وحراس وقائمين على أمور هذه المدارس بالإضافة إلى نفقة الطلاب من مسكن ومأكل ومشرب وكساء وكتب فلم تكن هناك قرية أو مدينة إلا وأوقفت لها المدارس ولم تكن العلوم التي تدرس مقصورة على العلوم الشرعية بل شملت مختلف العلوم والفنون فعلوم الفيزياء والهندسة والرياضيات والفلك والتصوف والكيمياء كانت من العلوم التي لقيت اهتماما من الواقفين.
وقد أوقف أهل الخير على هذه المدارس الأموال والأراضي الخصبة والثروات الطائلة بهدف الإنفاق على هذه المدارس وبما يفي بحاجتها وحاجة القائمين عليها والتي ضمنت استقلال العملية التعليمية واستقرار مناهج التربية واستمرار موارد التعليم ولبيت حاجات طلاب العلم واحترمت شخصية العالم – في ظل فقه يسعى إلى تبعيد العلماء عن تقريب الأمراء – حتى بدا علوها الاجتماعي الذي لا تفسده السياسة واستقلالها الفكري الذي لا يرتبط بالسلطة.
وكانت اليمن من أهم معاقل العلم التي قصدها العلماء والفقهاء والطلاب من مختلف البلدان وتخرج من هذه المدارس العديد من العلماء والفقهاء والقضاة.
وشعوراٍ من العلماء بواجبهم في نشر التعليم بين الناس كان الكثير منهم يتطوعون للتدريس من قبل أنفسهم ومن غير أن يطلبوا أو يأخذوا عائداٍ مادياٍ نظير قيامهم بالتدريس بينما وفرت الأوقاف مصدراٍ طيباٍ لإعاشة المحتاجين من العلماء نظير تفرغهم للتدريس وفي المدارس المسجدية التي أقامتها الدولة الرسولية كانت الدولة تصرف للمعلمين مستحقاتهم السنوية بما فيها شهور الإجازة التي كانت لا تقل عن شهرين.
بجانب مساهمة الوقف في إقامة المراكز التعليمية من مدارس ومساجد وزوايا وأربطة ونحوها انتشرت في اليمن أوقاف الكتب سواء كانت هذه الكتب دينية أو غيرها من كتب العلوم الأخرى حيث اهتم علماء اليمن وفقهاؤها بجلب الكتب الدينية والعلمية وانتساخها ووقفها على المدارس ليستفيد منها الطلاب والعلماء وقد احتوت بعض المدن اليمنية على العدد الكبير من الكتب في مختلف العلوم مما أغرى الفقهاء والعلماء على الإقامة بالقرب من تلك المكتبات رغبة في الكتب الموقوفة.
وبهذا تكون الأوقاف قد ساهمت مساهمة كاملة في خلق الأجيال من العلماء والباحثين والمتخصصين سواءٍ عن طريق توفير مراكز العلم والبحث أو عن طريق توفير الكتب والمراجع الأساسية.
هوامش
( 1) عبدالستار الهيتي مصدر سابق: ص 178.
(2 ) المعلامة (ج) معلامات غرفة ملحقة – في الغالب – بأحد المساجد أو بجواره يأتي إليها الأطفال بعد السادسة من العمر يومياٍ لتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب والتدرب على قراءة القرآن الكريم وكانت المعلامة منتشرة في معظم المساجد سواءٍ في المدينة أو في الريف وبفضلها تمكن عدد من الناس من التحرر من الأمية وتهيأت لهم فرص الالتحاق بحلقات الدرس في المساجد لسماع الدروس الدينية التي يلقيها على مسامعهم بعض علماء الدين أنظر: الموسوعة اليمنية 2 / 887.
( 3) الأوقاف والإرشاد في موكب الثورة: ص 84.
(4 ) الهيتي مصدر سابق ص: 168.
( 5) المصدر السابق ص: 169.
(6 ) أنظر: المدارس الإسلامية في اليمن وهجر العلم ومعاقله في اليمن للعلامة إسماعيل بن علي الأكوع.
(7 ) المدارس الإسلامية في اليمن: ص 63 الأوقاف والإرشاد في موكب الثورة: ص 85.
(8 ) العزعزي مصدر سابق.