في عام 1998 عرضت شاشات السينما فيلماً للمخرج ستيفن سبيلبيرغ عن تمرّد مجموعة من العبيد الذي عرفته السفينة “اميستيد” عام 1838. لقد أثار ذلك الفيلم الكثير من الجدل عند عرضه فيما يتعلّق بالمصادر التاريخية التي اعتمد عليها كما فيما يتعلّق بالشحنة العاطفية التي أظهرها حيال ذلك التمرّد.
واليوم يأتي كتاب أستاذ التاريخ في جامعة “بيتسبورغ” كي يسد الثغرة الخاصّة بالمصادر عن ذلك التمرّد وعن مدلولاته وأبعاده التاريخية. ويقدّم الكثير من المعلومات عن السياق الذي تمّت فيه ممارسة تجارة العبيد عامة وعن نشاطات السفن التي كانت وسيلة تلك التجارة. يحمل الكتاب عنوان “التمرّد على سفينة اميستيد: أوديسّة تجارة العبيد في المحيط الأطلسي والحريّة”.
يُقدّم المؤلف في البداية توصيفاً للسفينة “اميستيد” التي كانت مكرّسة لتجارة العبيد، وجرى بناؤها في الولايات المتحدة الأميركية خلال مطلع القرن التاسع عشر بطول 120 قدماً بالتقريب. ولم تكن مكرّسة في البداية للقيام بتجارة العبيد ولا لنقل أعداد كبيرة من العبيد انطلاقاً من الشواطئ الإفريقية إلى العالم الجديد. وبسبب الطريقة التي تمّ على أساسها بناء السفينة فإن الأسرى ـ المكرّسين للبيع كعبيد ـ كانوا يتمتعون بحريّة كاملة في التنقل بين حجراتها وبين سطحها.
تلك الحرية في الحركة كانت أحد العوامل المساعدة الكبرى في نجاح حركة التمرّد التي قام بها الـ53 أسيراً الذين كانوا على متنها ـ 49 رجلاً و4 أطفال ـ حيث كان قد جرى خطفهم من شرق القارّة الإفريقية، وتحديداً من سيراليون وجرى بيعهم في إطار عمليات تجارة العبيد التي كان يمارسها عدد من التجار الإسبان ليتم نقلهم إلى هافانا في كوبا .
عندما وصل أولئك “الأسرى” إلى العاصمة الكوبية أصبحوا بمثابة عبيد كوبيين ليتم شراؤهم بعد ذلك بـ “المزاد العلني” من قبل تاجرين إسبانيين يدعيان “دون خوسيه رويز” و”بيدرو دون مونتيز”. أراد التاجران نقل العبيد من هافانا إلى الطرف الآخر من الجزيرة الكوبية. هكذا تم تقييدهم بالأصفاد وأقلعت السفينة التي كانت تقوم بنقلهم من هافانا قاصدة “بوسرتو برانسيب” بمحاذاة الشاطئ.
لكن خلال الرحلة ذات الثلاثة أيام استطاع أحد العبيد، اسمه “سينغب بييه”، الشاب ابن الخامسة والعشرين من العمر فك ّقيوده ثم قام بتحرير العبيد الأفارقة الآخرين. لقد أعلن العبيد “تمردهم” وقتلوا أغلبية طاقم البحارة المسؤولين عن السفينة، “من قبطانها وحتى طبّاخها”. وأرغم المتمرّدون التاجرين الإسبانيين على تغيير وجهة السفينة باتجاه القارّة الإفريقية التي كانت موطنهم الأصلي.
ويشرح المؤلف أن أولئك الأفارقة لم يكونوا يملكون أية كفاءات في مجال الإبحار والتوجه البحري واستخدام البوصلة. كانت الشمس هي المرشد الوحيد لهم في توجههم صوب قارّتهم الأم. لكن التاجرين الإسبانيين اللذين كانا يملكان خبرة أكبر وأعمق استطاعا تغيير وجهة الإبحار من جديد ووجها السفينة “اميستيد” نحو الجزيرة الكوبية. استغرقت مغامرة الطريق البحري المتعرّج مدّة 63 يوماً.
وانتهت رحلة سفينة “اميستيد” ومعها مغامرة أولئك الأفارقة الذين كانوا في الطريق لبيعهم في سوق العبيد، وتمرّدوا على ذلك المصير إلى أحد الموانئ الصغيرة في ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية. كان الإجراء الأول الذي اتخذته السلطات الحكومية الفيدرالية الأميركية هو “مصادرة السفينة” و”حمولتها” من الأفارقة الذين كانوا قد “تملّكوها على طريقة القراصنة”، كما جاء في التوصيف الرسمي.
السفينة “اميستيد” تم ّ”قطرها” بحراً بعد مصادرتها إلى “لندن الجديدة” في ولاية كونيتيكت، أما الأفارقة الـ 53 فقد تمّ إيداعهم جميعهم السجن بانتظار تقديمهم للعدالة أمام المحكمة الأميركية المختصّة بجرائم القرصنة في مدينة “هارتفورد” في نفس الولاية.
أخذت تلك المحاكمة، كما يشرح المؤلف أهمية كبيرة في الولايات المتحدة الأميركية وأثارت الكثير من الجدل حيث إنها اكتست بعداً سياسياً واضحاً. ذلك أنها أنعشت “معركة” كانت قائمة أصلاً بين أنصار ممارسة العبودية وتجارة العبيد وبين المطالبين بإلغائها.
المؤلف في سطور: ماركوس روديكر، أستاذ تاريخ عالم المحيط الأطلسي في جامعة “بيتسبورغ”، أولى اهتمامه لدراسة تاريخ تجارة العبيد من إفريقيا إلى العالم الجديد (أميركا)، وقدّم العديد من الدراسات وعدداً من الكتب من بينها “سفينة تجارة العبيد: تاريخ إنساني”.
Next Post