مياه حوض صنعاء.. حديث الخطر في موسم المطر

تحقيق/ سارة الصعفاني
هذا المناخ الماطر المتبوع بالسيول لا يلغي التذكير بأن المياه هي الحياة، وقضية الموارد المائية من القضايا الوطنية التي تمس كل أفراد المجتمع وهي قضية وطنية متعددة الأبعاد، ولم تعد تنحصر في علاقتها بالأمن الغذائي والاستخدامات الصناعية والسياحية فقط بل في مشكلة النقص الحاد في مياه الشرب والأغراض المنزلية بسبب الانفجار السكاني، وانهيار مخزون المياه الجوفية، وتدهور وتردي نوعيتها، وقصور الرقابة وضعف تطبيق القانون، وغياب الوعي – حكومة وأفراد – بخطورة الوضع المائي في اليمن.. مؤشرات وحقائق تؤكد اقترابنا من كارثة إنسانية إذا لم نتلاف حدوثها.. إلى التفاصيل.

مر أكثر من عام على معاناة اليمنيين مع المياه، أطفال ونساء ورجال وشيوخ يستيقظون عند الثالثة فجراً في العاصمة صنعاء من أجل الحصول على 40 لتراً فقط من المياه كحد ادنى، ينتظرون في طوابير طويلة فرصة الحصول على الماء من خزانات السبيل في الأحياء السكنية والمساجد بعد أن ارتفع ثمن وايت الماء إلى 15 ألف ريال في بلد متوسط دخل الفرد أقل من دولارين في اليوم، وفي القرى معاناة منذ القدم في جلب كميات ضئيلة من المياه من مسافات بعيدة فوق الحمير أو على رؤوسهم.
وفي الوقت الذي لم يجد الملايين من اليمنيين مياه للشرب والاستخدام الشخصي نجد الاستهتار في خزن مياه الأمطار رغم الحفر العشوائي للآبار بدون ترخيص والضخ الجائر للمياه والري بالغمر، وكأن الأمر تنافس نحو القاع !
الحمامات البخارية ” التركية ” أيضاً تستنزف يومياً كميات كبيرة من المياه خاصة في مواسم شحة المياه وارتفاع ثمنها وافتقاد الناس للساخن منها في غياب الكهرباء، ما مثّل حالة من تعويض النقص والحرمان لدى الكثير من مرتاديها، أدى إلى نضوب المزيد من الآبار وانهيار مخزون البلد من المياه الجوفية.
تقول صباح المسؤولة عن أحد الحمامات البخارية في شمال أمانة العاصمة : يصل معدل استهلاك المياه في اليوم إلى عشرين وايت، وبسؤال مالكين لمثل هذه الحمامات أبدوا استياءهم الشديد من الاستخدام المفرط للمياه خاصة من قِبل النساء جراء استعمالهن وصفات طبيعية وكيميائية يصعب إزالتها بسهولة كالحناء والسدر وصبغة الشعر، فيما يأتي الرد: نحن ندفع ثمن المياه.
وللاقتراب أكثر من مشكلة المياه الواقع وتصورات الحل اتجهنا إلى كل من الهيئة العامة للموارد المائية ومركز المياه والبيئة حيث فضّل كل من المهندس محمد الصلوي وعبدالله صالح سيف والدكتور فضل النزيلي إعطاء معلومات وأرقام من دراسات وتقارير متخصصة تكشف حجم المأساة وتصورات الحل.
تعد مدينة صنعاء أسرع ثالث مدينة في العالم من حيث التزايد السكاني في بلد هو أحد الخمس الدول الأكثر معاناة من شحة المياه في العالم ،ويقع ضمن المناطق الجافة وشبه الجافة التي تعاني من شحة في أمطارها الموسمية ولا تمتلك أي بحيرات أو أنهار سطحية، فالمتوسط العالمي لنصيب الفرد من المياه 7500 متر مكعب سنوياً بينما في اليمن 137 متر مكعب في السنة؛ أي أقل من خط الفقر المائي العالمي (1000 متر مكعب في السنة) بنسبة 15%، ومياه الأمطار هي المصدر الوحيد للمياه السطحية، وعبر خزانات حصاد مياه الأمطار أو السدود يعاد تغذية المياه الجوفية التي تسوء كلما اتجهنا أعمق وتعاني من استنزاف جائر لمخزونها الذي تراكم عبر آلاف السنين نتيجة قلة الموارد المائية المتجددة وسوء استخدام المياه متسبباً في هبوط حاد مستمر في مستوى مناسيب المياه في حوض صنعاء حيث معدل الاستنزاف يفوق معدل التغذية بنسبة 150% سنوياً، ما دفع الخبراء وفقاً للمؤشرات التأكيد أن صنعاء من المدن التي ستنضب فيها المياه في غضون عقد من الزمان إذا لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على ما تبقى من موارد الحوض المائية وإيجاد مصادر مائية بديلة لتغطية متطلبات ما يزيد عن 3 ملايين نسمة من المياه للاستخدامات المنزلية والزراعية والصناعية والسياحية.
وطبقا للتقارير الحديثة فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في حوض صنعاء بدأت تتغير للأسوأ تدريجياً كنتيجة للنمو السكاني وزيادة الطلب على المياه من قبل القطاعات المائية المختلفة ففي بداية السبعينيات كانت المتطلبات المائية بسيطة وعدد سكان الحوض 200 ألف نسمة وعدد الآبار المحفورة آلياً محدودة لقرب مستويات مناسيب المياه الجوفية حيث كان عمق المياه لا يتجاوز 30 متراً ،أما في الوقت الحالي فقد أصبحت مناسيب المياه عميقة جداً بسبب الضخ الجائر من الآبار التي يتزايد عددها مع الزمن.
وتقول التقارير : بلغ عدد الآبار 14,600 بئر حتى 2007م؛ فكم عددها اليوم؟ وأين هيبة القانون في إلزام أصحاب الحفارات وملاك آبار المياه بعدم الحفر إلا بترخيص؟
ويعاني حوض صنعاء أحد الأحواض المائية البالغ عددها 14 حوضاً من أزمة مائية خطيرة حيث لا يزيد معدل هطول الأمطار في معظم مساحته التي تقدر بـ 3,240 كيلومتر مربع عن 300 ملي متر في السنة ما يجعل فرحة الناس تتزايد بمستوى هطول الأمطار هذه الأيام، وقد نتج عن قلة الموارد المائية وزيادة الاستنـزاف وهبوط مستوى المياه في الحوض خسائر مادية تمثلت في انتهاء بعض الآبار ومضخاتها ما يعني الحاجة إلى حفر آبار جديدة بأعماق أكبر وكلفة تشغيل أعلى، ويشمل الحوض أمانة العاصمة وسبع مديريات من محافظة صنعاء هي: نهم، أرحب، بني حشيش، همدان، بني مطر، خولان، سنحان وبني بهلول.
التوازن المائي
ويظهر تقرير حديث أن المخزون المائي في تناقص ملحوظ نتيجة الضخ الجائر للمياه الجوفية، والفجوة المائية في اتساع متزايد حيث يصل معدل السحب السنوي إلى ثلاثة أضعاف التغذية، ومناسيب المياه في هبوط مستمر وصلت في التسعينيات إلى ما يزيد عن 150 متر ما يهدد ليس فقط التطور الزراعي والصناعي بل أيضاً مياه الشرب والمجاري.
ويستهلك الري من المياه في حوض صنعاء 82% من إجمالي الاستهلاك المائي، ويستنزف القات ما يقارب نصف كمية المياه المستخدمة لأغراض الري( 47% قات،35 %عنب، 16% خضروات،2% فواكه !) ويستحوذ على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية فضلاً عن أن غالبية المزارعين ما زالوا يستخدمون الطرق التقليدية للري كالغمر وبكفاءة متدنية جداً تقدر بــ40%، ولما للقات من تأثير اجتماعي واقتصادي وإدمان مجتمعي فمن الضروري ” دعم وتحسين زراعته للحد من استهلاكه الكبير للمياه ” مع مراعاة عدم التوسع في رقعته الزراعية.
تصور للمعالجات
وقدمت دراسة تم عرضها في مؤتمر الحوار الوطني مايو 2013م حلولا لمعالجة قضية حوض صنعاء منها إدخال محاصيل نقدية ذات استهلاك أقل للمياه وتساعد على تحسين دخل المزارعين، وتسجيل كل الآبار ومراقبة كمية المياه المستهلكة، وتقليل الفاقد من المياه نتيجة التسرب والري بالغمر من خلال دعم تركيب أنظمة الري الحديثة، وتغطية أكبر مساحة ممكنة بواسطة المشاريع القائمة كالبرنامج الوطني للري أو منح المزارعين قروض بيضاء ميسرة عبر بنك التسليف الزراعي أو صندوق التشجيع الزراعي أو أي مصدر أخر، وتأمين دخل ثابت بزراعة محاصيل تستهلك كمية مياه أقل وإيجاد أسواق للمحاصيل، ودعم وتشجيع المزارعين على التوجه نحو الاعتماد على طرق الحصاد المائي التقليدية على المستوى الجماعي وبالذات الفردي، وصيانة المدرجات الزراعية.
وتؤكد دراسات أعدها فريق خبراء هيئة الموارد المائية أنه يمكن تحقيق وفورات مائية عالية من مياه الري في حال تم تحويل كافة المساحات المروية بنظام الري التقليدي إلى مزارع مدعومة بنظام ري حديث.
تهالك وتوصيل مخالف
المصدر الرئيسي لإمدادات المياه لسكان العاصمة صنعاء هو من آبار المياه الجوفية، ويشير تقرير حديث أن عدد الآبار التي تضخ المياه إلى شبكة المؤسسة المحلية للمياه 83 بئراً تقدر أعماقها بين 300 – 1000 متر تحت سطح الأرض، حوالي 6 آبار من هذه الآبار تجف سنوياً وعشرة تخرج عن الخدمة، فيما يبلغ متوسط الإنتاج السنوي للمياه التي يتم ضخها حوالي 21 مليون متر مكعب بينما تجاوزت نسبة الفاقد 42% من إجمالي الكميات المنتجة لتهالك الشبكة العامة للمياه والتوصيل غير القانوني.
القانون و الرقابة
وحسب تقارير للمؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي بأمانة العاصمة فإن الفواقد الفنية تمثل 50 %.
وما يزيد عن 13 ألفاً و400 بئر تستنزف مياه حوض صنعاء، معظم هذه الآبار تم حفرها بطريقة عشوائية، في إحدى مديريات حوض صنعاء وهي بني حشيش يوجد أكثر من خمسة آلاف بئر، هذا العدد يزيد عن عدد الآبار في بلد فقير بالمياه كالأردن، فيما أقل مسافة بينية بين الآبار يفترض أن تكون خمسمائة متر وليس بضعة أمتار، كما بلغ عدد الآبار المرخصة بين الأعوام (2005-2009) 106 آبار، بينما بلغ عدد الآبار غير المرخصة المضبوطة بنفس الفترة 614 بئر، وفي عام 2007م بلغت المخالفات المرصودة بحفر الآبار العشوائية 141،حالتان فقط حولت للمحكمة.
ما ذكر مجرد مثال يضاف لممارسات لا مسMولة وحصيلة متراكمة لسياسات وتدخلات الدولة في الثمانينات والتسعينات بإعطاء دعم سخي للمزارعين من دعم لـ سعر الديزل ودعم استيراد المضخات والآلات الزراعية وآلات حفر الآبار رغبة في تحقيق الاكتفاء الذاتي دونما تخطيط ورقابة ! يكفي فقط أنه لم يتم إنشاء الهيئة العامة للموارد المائية كجهة منظمة ومراقبة لإدارة المياه في بلد تحت خط الفقر المائي إلا عام 2004م وإصدار قانون المياه في عام 2002م. وحتى اليوم الرقابة قاصرة، وعدم تفعيل قرار مجلس الوزراء رقم 277 لسنة 2004م. الخاص بتنظيم عمل الحفارات وتنقلها وعدم اعتبار قضية الحفر العشوائي من الأولويات لدى الجهات الأمنية والقضائية أدى إلى تزايد مخالفات الحفر العشوائي لآبار المياه، ويحدد قانون المياه ولائحته التنفيذية بأن المياه ملكية عامة خاضعة لإدارة الدولة، ما يفرض تحديد الحصص المائية بما يوفر عدالة الانتفاع بالموارد المائية ويحمي المياه الجوفية من الاستنزاف رغم إعطاء المصادر التشريعية كالدستور والشريعة والعرف والقانون المدني مالك الأرض الحق الكامل والسيطرة على الموارد الطبيعية.
كما ينبغي على السلطة المحلية حماية الموارد المائية من الاستنـزاف والسيطرة على الحفر غير القانوني والتفاعل مع هيئة الموارد المائية في تنفيذ الإدارة المتكاملة حيث أنها منهجية تشاركية شاملة وتكاملية ينسق فيها مختلف الجهود الرسمية والشعبية لتبني عدد من الإجراءات الفنية والمؤسسية والقانونية والسياسية والمجتمعية المجدية اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً والضامنة لبقاء الموارد المائية
حلول بديلة؟
وأظهرت دراسات هيئة الموارد المائية إن استخدام مياه الأمطار بواسطة طرق الحصاد المائي والمنشآت المائية السطحية ساهمت في إعادة تغذية المياه الجوفية لكنها ليست سوى جزء بسيط من الحل، فيما تكلفة ضخ مياه جوفية من حوض إلى آخر حسب عدد السكان في منطقة الحوض عالية، كما يعد ترحيلاً للمشكلة وليس حلاً وحدوث مشاكل اجتماعية أمر وارد، وارتفاع الكلفة الاستثمارية والتشغيلية في تحلية مياه البحر فضلاً عن أن الكمية ستغطي فقط احتياجات الشرب والاستخدام الشخصي.
وتعتبر المياه العادمة المعالجة الخارجة من محطة الصرف الصحي الواقعة جوار مطار صنعاء الدولي مياه غير قابلة للري ولا تمثل مصدر من مصادر المياه كونه يتم تشغيلها تحت وضع الحمل الزائد ولا يتم معالجتها كما ينبغي، ما يضر بصحة الإنسان والبيئة معاً.
وتؤكد هيئة الموارد المائية أن الحل الأمثل لمشكلة المياه يتطلب تبني نهج الإدارة المتكاملة للموارد المائية لتنفيذ العديد من الإجراءات الضرورية مثل ترشيد الاستهلاك عبر استخدام أنظمة الري الحديث، رفع مستوى الوعي المائي، الحد من الحفر العشوائي، تغيير النمط المحصولي الأقل استهلاكاً للمياه، تحسين تغذية المياه الجوفية عبر إنشاء وصيانة وسائل حصاد مياه الأمطار، تبني دعم القات بشبكات الري الحديث كونه المستهلك الأكبر للمياه، تفعيل قانون المياه ولوائحه،التحكم والسيطرة على استخراج المياه عبر تحصيص وتنظيم حقوق المياه للقطاعات المختلفة،تنظيم وحصر وتسجيل حقوق الانتفاع بالمياه، منع دخول واستيراد حفارات آبار المياه إلى داخل البلاد من المنافذ الجمركية وقطع غيارها إلا بترخيص من الجهة المختصة، تعاون وتكامل كافة الجهات الرسمية والشعبية في إدارة موارد المياه.
ختاماً..
الوضع المائي في اليمن ينذر بخطر مؤكد إن استمر الحال على ما هو عليه، ما يفرض علينا جميعاً إدراك المشكلة والتصرف بمسؤولية وترشيد الاستهلاك كأبسط دور ولو من الناحية الدينية لتلافي حدوث كارثة إنسانية.. ما سبق مؤشرات وحقائق خبراء أما الرهان فقط على الأمطار الموسمية في توفير المياه سنوياً فإنه سيأتي زمن نفقد فيه أرخص موجود وأغلى مفقود ولكن بعد فوات الأوان، ولنأخذ من ما حدث لتعز قبل عقود من جفاف وندرة في المياه عظة وعبرة.

قد يعجبك ايضا