د.عرفات الرميمة
لا يمكن للمثقف الحقيقي إلا أن يكون ملتزماً بموقف ومدافعاً عن قضية ومناضلاً في سبيل خلق واقعِ يليق بإنسانية الإنسان، لأن ذلك هو ما يجعله كذلك دوناً عن سواه ، أما الحياد والصمت تجاه ما يتعرض له الوطن من عدوان سعودي فهو تخلِ واضح عن ماهيته كإنسان أولاً ووظيفته كمثقف ودوره كمواطن حر وشريف ، والوقوف مع العدوان جريمة جسيمة يعاقب عليها القانون وتحرمها كل الشرائع والأعراف والقوانين الدولية . لقد شكّل العدوان السعودي على اليمن لحظة فارقة في المشهد الثقافي اليمني وحجر رشيد آخر نقرأ على أساسه المشهد الثقافي وفحصاً جينياً يفضح كل زنيمِ ودخيل على الثقافة تناسل خارج رحم الإبداع .
فعندما حاول الفيلسوف والمناضل الماركسي أنطونيوجرامشي( 1937-1891م) – سجنه الديكتاتور موسوليني من عام 1926م الى أن توفى- أن يُعّرف ماهية المثقف كتب في مذكراته في السجن قائلاً:( إن جميع الناس مفكرون ومن ثمّ نستطيع أن نقول : ولكن وظيفة المثقف أو المفكر في المجتمع لا يقوم بها كل الناس ) ولا يمكن أن نفهم قوله السابق إلا تحت ضوء مقولة هيجل التي رأى فيها أن العقل هو ما يجمع الناس لكن الفهم هو الذي يفرقهم وهذا يعني أن المثقف الحقيقي هو الذي يستطيع التمييز بين الحق والباطل وبين الحقيقة والوهم، حين يرى الآخرون الباطل حقاً والوهم حقيقة أو حين تلتبس عليهم الأمور .
وقد وضّح جوليان بندا في كتابه الهام ( خيانة المثقفين ) الفروق الجوهرية بين المثقف الزائف والمثقف الحقيقي، معتبراً أن الأخير نادر الوجود لأن ما يُميزه عن الأول هو أنه يُنادي بتطبيق المعايير الخالدة للحق والعدل التي لا تنتمي للحياة التي يعيشها وإنما تنتمي للعالم الآخر، وقد ضرب أمثلة للمثقف الحقيقي، معتبراً أن المسيح – عليه السلام – وسقراط هما النموذج للمثقف الحقيقي . بناءً على ما سبق أستطيع القول:
بأن وضع المثقف الحقيقي يتحدد من خلال الدور الاجتماعي الذي يقوم به في المجتمع كفاضحِ وكشاف لجميع الأوهام التي يسوق لها الإعلام كحقائق ومسلمات قائمة ويتحدد دوره أيضا كمشرّع لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع من يقظة وتميز بين زبد الأفكار والمشاريع التي تدهب جفاءً مع مرور الزمن ومعترض لكل ما يتناقض مع إنسانية الإنسان وكرامته مما هو كائن في واقعه المعاش ومبشر بمشروع إنساني يحترم الإنسان لإنسانيته فقط – وهذا يكفي ويزيد – وليس لأي شيء آخر دخيل عليها ، كالمذهبية والحزبية والمناطقية ، دور المثقف الحقيقي يشبه البوصلة التي توجه الناس عندما تتقطع بهم السُبل ويتيهوا في أرض الواقع ويضلوا الطريق .
ولأن المثقف لا يعيش في قبة من البلور بل يعيش في محيطه الاجتماعي الذي يتفاعل فيه المثقف مع السائد والمعاش من العادات والتقاليد والأعراف والسلوك وكل طارئ يعمل على إحداث هزة في السائد والمعيش فإن ذلك يؤهل المثقف الحقيقي كي يكون الفنار التي توجه المجتمع والهادي الى سواء السبيل بعد أن تفرّقت السُبل بأفراد المجتمع .
إن رسالة المثقف الحقيقي الحضارية تتجسد في العمل على بلورة المشروع الثقافي للمجتمع الذي ينتمي اليه ، من أجل المحافظة على هويته الثقافية التي تميزه عن غيره ، ونوجه سؤالاً للمثقف العرطة الساكت عن إدانة العدوان السعودي الامريكي والمؤيد له :
ألم يعمل العدوان السعودي على طمس الهوية اليمنية من خلال المعاهد العلمية والجمعيات التي ظاهرها خيرية وباطنها من قِبله نشر الوهابية ؟ ألم يعمد ذلك العدوان على استهداف آثار وحضارة اليمن وكل ما يُميزنا عن الآخرين في سابقة لا مثيل لها في طمس الإرث التاريخي والحضاري الذي يفتقدهما ؟ ألم يستهدف العدوان السعودي كسر أواصر النسيج الاجتماعي وسرقة الرأسمال الاجتماعي المتداول من قديم الزمان من خلال محاولته المستمرة في خلق حروب مذهبية لأول مرة ليس في اليمن وحسب بل في العديد من الدول العربية التي لا تدين بالوهابية ؟.
لن أتحدث هنا عن جرائم العدوان ومجازره التي ارتكبتها طائراته فقط – قدرتها الامم المتحدة في يناير الماضي بـ 119غارة انتهكت القانون الدولي الإنساني – لأن الكثير من العرطات الثقافية مرهفة الحس ولا ترى الا من خلال فوهات بنادق الجيش واللجان ولم نسمع منها مجرد إدانة وعلى سبيل المثال : لم نسمع من المثقف الكبير قوي – الذي حصل على جائزة البوكر والجوكر والبنت والشيبة – مجرد إدانة خصوصا بعد إن سالت الكثير من الدماء التي حبرّت روايات سوف تقرأها الأجيال القادمة وتلعن كل من تجاهل إدانتها من مثقفي الدفع المسبق من أعضاء فريق الريال السعودي .
ألم يستطع المثقف أن يُدرك حقيقة العدوان وخلفياته التاريخية ودوافعه السياسة ؟ وهل لا يستطيع المثقف أن يفرق بين قتل الطائرات للمدنيين وقتال الجيش واللجان للعملاء والمرتزقة حتى على المستوى اللغوي ؟.
لقد أثبتت لنا مواقف الكثير من المثقفين من العدوان وحيادهم الزائف وكلامهم عن الحرب – بدلا من العدوان وهو عيب على مستوى اللغة إذا كانوا يفهمون اللغة – أن الثقافة الحقة تعني الوقوف مع العدوان وعدم إدانته كي لا تتهم بأنك تدافع عن الشعث الغُبر خريجي الكهوف – مع أن رسول البشرية والرحمة المهداة تخرج من الكهف – وتغدو الثقافة ميوعة ونتنا مناطقياً أعور ومصالح ضيقة يجنيها ذلك المدعي من دول العدوان على حساب كل ما هو إنساني وأخلاقي ووطني .
ويتشدق المثقف (العرطة) بكم هائل من المبررات المسوغة للعدوان وبأنه ضرورة وعملية تجميل لا بد منها ، وحال أولئك النفر دعاة التبرير يشبه حال الممثل الذي يعمل عملية تجميل لأنفه ويخرج الطبيب مخه ويتلف عقله ويقطع شرايين قلبه ويموت والمهم لديه أن أنفه أصبح جميلا وسوف يعجب الجمهور .
لقد جعل بعض المثقفين من خيانتهم للثقافة -وتبريرهم تلك الخيانة بكل الطرق – كعبا أخيل الذي يربطهم بالثقافة كي ينطبق عليهم قول الرفيق لينين : ( إن المثقفين هم اقدر الناس على ارتكاب الخيانة لأنهم اقدر الناس على تبريرها ) المهم أنهم مثقفون ولو من باب الخيانة ونافذة التبرير . وبناءً على كوجيتو ديكارت – أنا أفكر اذاً أنا موجود – يمكنني القول بكل ثقة : أنا مثقف إذاً أنا مع العدوان السعودي الامريكي ، كي يقول مثقفو الخليع العربي أني لست حوثياً ولا أتناول البردقان فذلك عيب أسود لكن أن أخون وطني وشرفي وديني وعرضي وأخلاقي وثقافتي تلك وجهة نظر والأهم من ذلك أني ربما سوف آخذ جائزة عن أحد أعمالي البطولية ومؤلفاتي الباهرة ومنها ؛ كيف يمكن أن تصبح خائناً وعميلاً أثناء العدوان السعودي .
إذا كانت خيانة الأوطان تدعى ثقافة وحداثة فأهلاً وسهلاً بالجهل والقبيلّة والبردقان أيضا . لا يختلف يا صديقي المثقف – الذي خان الثقافة ويبرر العدوان السعودي ويسترزق من خيانته تلك – عن المومس -التي تبيع عرضها وتبرر ذلك أنها مضطرة باعتباره مصدر رزقها الوحيد – إلا قليل ومع الأسف الشديد أن هناك كثيراً من المثقفين طرحوا ذلك القليل .