لحظة يا زمن .. محتار
محمد المساح
صاحبي عاشق التاريخ محتار، وفي هذه الحيرة تبلبلت أفكاره، وانفكت السلسلة المترابطة الحلقات جميعها.
ترك أوراقه تتبعثر ولم يعد يستطيع لملمة ما كان يود ويتوق إلى لمه وجمعه ليصل إلى خلاصة موجزة يُبَوّبها ويؤطرها في مذكرة صغيرة، أو بالتدريب والمراس يحفظها غيباً في الذاكرة.
كان يأمل من وراء ذلك وأمنيته حقاً إلى تكوين معادلة خلاصة الخلاصة على ضوئها يقدر على تحليل الظواهر الإنسانية والوصول بوقت أسرع إلى النتائج.
وكان يهدف بالأساس توفيراً لدوشة الدماغ وتجاوز التردد الإنساني المعتاد أن يصل إلى حكم يحسم في النهاية.
يوضح وهو يشكو حالته المرضية منذ البدء.. لم أقرر هل أتخصص في دراسة التاريخ؟ أم أكون هاوياً ؟ تلك أول نقطة.
قلت لنفسي التخصص احتراف لكوني والإمكانيات الذاتية لا تؤهل من أمثالي.. مسألة الاحتراف.
فاخترت الطريق الأسهل.. أن أكون هاوياً.. وهو الأمر الذي يتناسب مع قدراتي المحدودة.
استمر هاوياً.. وانغمس يدس رأسه في غبار الأوراق، يقلب الورقة يتهجى حروفها ولا يصل إلى المعنى.
يتناول الورقة الأخرى يفك طلاسمها يربط الجملة بالجملة التي تليها حتى آخر الورقة يقترب المعنى قليلاً أو هكذا يشبه له، فيمد يده إلى الورقة يتحقق من رقمها.. فيجد أن الأوراق غير مرتبة التسلسل بعد التعب والإجهاد والتفرغ الكامل وهو مطمور بين الأوراق وغبارها وأحبارها المتساقطة بفعل القدم ينفض الأوراق من حوله بغضب ويزيل التراب العالق في ثيابه وينطلق إلى الفضاء.. في الهواء الطلق.
تأسره الأشياء وهي تنسجم في حركة متوازية مع طبيعة وجودها وأدوارها التي رسمت لها قدراً هكذا أو مصيراً محدداً منذ الأزل.
كان يغرق في تأملاته الذاتية، لا يدري هو في المكان نفسه، هو في دورة الزمن، ليله ونهاره، هل سيعود من جديد يطمر نفسه في كومة الأوراق ينفض عنها الغبار ويغوص في التاريخ، أم ستخذله رغباته الطفولية وبدائية الإنسان ثم يضيع ويذهب في رحلة نفي بعيدة يسبح في بحر الجنون.
ما بين وعيه الذي كان يأتيه في ومضات ثم ينقطع، بين تردده، في غيابه الدوري، في تشنجاته، في لهيبه الداخلي بلا جدوى.. ضاع عليه التاريخ.. فلا احترف ولا عشق وهناك في الحيرة فَلَتْ.