عباس السيد
لم تتوقف الأطماع السعودية في اليمن بالتوسع الجغرافي الذي تحقق لها بضم أجزاء واسعة من مساحة اليمن الطبيعية إلى أراضيها . فأطماع النظام السعودي تتجدد وتتعدد بارتفاع سقف طموحاته وأحلامه.
السعودية التي كان لها دور أساسي في إضعاف الدور المصري والسوري والعراقي في الساحة العربية خلال العقود الأخيرة ، تسعى بخطى محمومة لتكون الرياض قبلة سياسية تحج إليها الأنظمة العربية والإسلامية.
يعتقد النظام السعودي أن تحقيق حلمه بالكامل مرهون ببقاء اليمن في حظيرته . فاليمن يمتلك مقومات متعددة تؤهله ليس فقط للخروج من الحظيرة السعودية ، بل ليلعب دورا هاما في جنوب شبه الجزيرة والمنطقه العربية ، إذا ما تيسر له استغلال مقوماته ، بعكس الدول الخليجية الخمس المجاورة للسعودية .
ولذلك عملت السعودية منذ عقود على حرمان اليمن من استغلال أي فرصة للنهوض والتطور. ولم تأل جهدا في الانقضاض على ثوراته الوطنية وإجهاضها بكل السبل .
ومثل سجين ينقل إلى زنزانة انفرادية خوفا من تأثيره وتمرده ، خصصت السعودية لليمن حظيرة منفصلة بعيدا عن حظيرة مجلس التعاون .
المملكة المتوكلية والمملكة السعودية
قبل ثورة سبتمر 1962م، شهدت العلاقات بين النظامين الملكيين – اليمني والسعودي – موجات من المد والجزر. لكن الاختلاف الواضح في الايدلوجيتين المذهبيتين للنظامين – الوهابية السنية ، والزيدية الشيعية – كان له دوره في رسم علاقات اتسمت بالحذر والتوجس والندية بين النظامين . بغض النظر عن الفرق في عناصرالقوة الاقتصادية والعسكرية التي مكنت السعودية من الاستيلاء على أراض يمنية شاسعة قبل أن يتمكن الإمام يحيى من ضمها إلى مملكته الوليدة .
وخلال الأربعة عشر عاما الأخيرة من عمر المملكة المتوكلية اليمنية ، شهدت العلاقات بين المملكتين استقرارا ملحوظا. لم يكن ذلك الاستقرار مؤشرا على تحسن في العلاقات أو علامة على زوال الأطماع السعودية في اليمن . فلم تكن تلك الفترة سوى استراحة للنظام السعودي الذي كان لا يزال يستجر الوجبة الدسمة التي ابتلعها من الأراضي اليمنية في ثلاثينيات القرن الماضي .
السعودية والصدمة الأولى
عند سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية العربية اليمنية عام 1962م ، أصيب النظام السعودي بصدمة عنيفة مفاجئة ، وكاد يتقيأ ما كان يستجره بتأثير نوبة الهلع التي أصابته بقيام الجمهورية المدعومة بقوة من خصمه اللدود جمال عبد الناصر .
لم يكن الإمام محمد البدر، أو عمه الحسن ، وغيرهما من أفراد العائلة المالكة الذين فروا إلى السعودية عملاء للنظام السعودي ، لم يكونوا حتى حلفاء سياسيين له ، ولا يرتبطون بعلاقات شخصية مع نظرائهم في العائلة السعودية.
وكان احتضانهم من قبل السعودية ، ودعمها العسكري لهم طيلة سبع سنوات ، نابع من خشيتها من النظام الجمهوري الجديد وقياداته التي كان جلها من الشباب المرتبطين بناصر والمتأثرين بأفكاره وتطلعاته.
وقد كان النظام السعودي يرى في استعادة شرعية النظام الملكي في اليمن جدارا يقيه من خطر عبد الناصر الذي بات على حدوده الجنوبية . وليس ليحافظ على نفوذه في اليمن من خلال عودة البدر والحسن ورفاقهما إلى العرش – كما هو الحال في دعمه ” للشرعية ” المقيمة بالرياض منذ 2015م .
تدجين سبتمبر واغتيال يونيو
بعد سبع سنوات من الحرب التي غذتها السعودية بمشاركة بريطانية وإسرائيلية وراح ضحيتها 200 ألف يمني بين الأعوام 62 ـ 1970م ، وانسحاب القوات المصرية من اليمن ، اعترفت الرياض بالنظام الجمهوري حين اطمئنت انه سيكون كما تريد ” شاطر ومؤدب ويسمع الكلام ” .
تركت مصر الجمهورية في اليمن يتيمة في السابعة من عمرها. فاستمرت السعودية في تدجينها وترويضها ، وتغلغلت في جوامعها وقبائلها ومعسكراتها وبرلماناتها وإعلامها ، …، حتى أصبح النظام الجمهوري في اليمن أحب إليها ألف مرة من مملكة الإمام التي كافحت من أجل استعادتها سبع سنوات.
على الجانب الآخر ، فشلت السعودية في اختراق نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب الذي اتخذ له ايدلوجية سياسية صارمة حالت دون تغلغل الأدوات السعودية في الجنوب اليمني.
في 11 أكتوبر 1978م ، أغتالت أدوات السعودية الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي ، الذي حاول خلال فترة حكمه إخراج اليمن من حظيرة المملكة .
عسير جيزان ونجران
ومثلما لعبت زيدية النظام الإمامي دورا هاما في كبح محاولات التغلغل السعودي الذي يبدأ من خلال تسويق الوهابية في اوساط المجتمع . لعبت الايدلوجية الاشتراكية دورا مماثلا في حماية الجنوب اليمني منذ استقلاله في 1967م وحتى إعلان الوحدة في 1990م .
وفي مثال آخر على دور الايدلوجيات السياسية والمذهبية اليمنية في تحديد العلاقة مع السعودية ، يمكن القول أن سُنية مناطق جيزان وعسير التي تماهت شيئا فشيئا بالوهابية خلال حكم الأدارسة ” 1906 ـ 1934″ كانت أحد العوامل التي سهلت للنظام السعودي فيما بعد عملية ضم تلك المناطق الى أراضيه .
ولم يجد في تلك العملية صعوبات كالتي واجهته في ضمه لإقليم نجران الذي كان غالبية سكانه يعتنقون المذهب الإسماعيلي . وحتى الآن ، لا تزال نجران بؤرة مؤرقة للنظام السعودي بسبب نزعات التمرد والاستقلال التي يعبر عنها النجرانيون بين الحين والآخر بوسائل مختلفة.
الحلم الجميل يتحول كابوسا
عام 1989م، كانت السعودية على موعد مع نوبات جديدة من الهلع على وقع الخطوات المتسارعة لاستعادة الوحدة اليمنية ، فأوعزت المملكة لوكلائها في جمهورية الشمال للقيام بمهمة وأد المشروع الوحدوي ، لكنهم أخفقوا في إعاقة تيار الوحدة الجارف الذي وصل إلى هدفه في 22 مايو 1990م.
انتقل النظام السعودي ووكلاءه في اليمن إلى الخطة “ب” وهي : تدمير الوحدة من الداخل. وفي بضع سنوات ، وبتأثير أشبه بالسحر ، تحول حلم اليمنيين الذي تحقق في 1990م، إلى عبء وكابوس مؤرق ، لا يزال اليمنيون يبحثون له عن دواء ، ومنهم من لا يستبعد أن يكون الدواء في الكي أو البتر .
11 فبراير .. صدمة ثالثة
ومثل اللص الذي يتوجس خيفة من يقظة صاحب الدار ، اجتاحت النظام السعودي نوبة ثالثة من الفزع مصدرها ثورة 11 فبراير الشبابية السلمية عام 2011م .
وبعد أقل من شهر من انطلاق ثورة فبراير ، بدأ وكلاء السعودية بسحب البساط الإسفلتي من تحت أقدام الثوار الشباب. وكانت أحداث جمعة الكرامة الدموية بساحة التغيير بالعاصمة صنعاء في 21 مارس ، ومحرقة ساحة الحرية بمدينة تعز في 29 مايو 2011 ، بمثابة حصان طروادة الذي استغله وكلاء السعودية للتسلل إلى ساحتي الثورة الرئيسيتين والسيطرة عليهما بذريعة الحماية .
أواخر 2011م ، تحولت ثورة الشباب بعصا سحرية ، إلى أزمة بين شركاء السلطة في الجمهورية اليمنية- ووكلائهما من حلفاء السعودية المخلصين ووكلائها الأوفياء – .
المبادرة الخليجية كحل للأزمة
ومع نهاية 2011م ، برزت ” المبادر ة الخليجية ” كوصفة سحرية لمعالجة الأزمة ، وحلت المبادرة كبديل للدستور اليمني ، وعُطلت كل النظم والقوانين بما فيها قانون الانتخابات . وبموجبها ، مُنح الرئيس صالح حصانة مطلقة من المسائلة ، وفُرض نائبه هادي كمرشح رئاسي وحيد.
وخلال ثلاث سنوات ، جمعت السعودية السحرة والدجالين من كل مكان ، لمساعدتها في حل ما بات يعرف بـ “الأزمة اليمنية ” وفقا لأهدافها هي ، وبما يضمن تجنيبها أي نوبات جديدة قادمة من جهة الجنوب. وكان الحل أو العلاج في مشروع تقسيم اليمن إلى أقاليم.
تلك هي الوصفة السحرية التي تم تصميمها وتركيبها لمعالجة السعودية وتخليصها من الكوابيس التي تداهمها بين فترة وأخرى. الوصفة التي تبدأ بـ ” الأقلمة ” كفيلة بتحويل اليمن في غضون عشر سنوات إلى إمارات ودويلات ، سيكون عليها ـ تلك الدويلات ـ الانتظار عقودا قبل أن تتفق على تشكيل ” مجلس التعاون الجنوبي ” على غرار ” مجلس التعاون الخليجي “.
وفي هذه الحالة ، ستجد السعودية نفسها بين دويلات المجلسين – الخليجي والجنوبي – مثل دجاجة ضخمة ، يطوف حولها الكتاكيت من الشرق والشمال والجنوب، ويقتاتون بما تلقيه عليهم بأرجلها.
هلل وكلاء السعودية لوصفة “الأقلمة ” وبدأ إعلامهم يتعامل مع الأقاليم وهي لا تزال خطوطا وأحرفا على الورق .. هادي – الذي مُنح صلاحيات مطلقة في لجنة تقسيم الأقاليم – رفع مسودة الدستور عاليا وهو يبتسم ، واصفا إياها ” أهم استحقاق أنجزه اليمنيون ” .
سكين الدستور
وفي الحقيقة ، لم يكن مشروع الدستور سوى سكينا سنها الخارج ليقوم اليمنيون بمهمة تقسيم وطنهم بأنفسهم . فالمادة السادسة من مشروع الدستور تضمن ما أسمته : حق الشعب في تقرير مكانته السياسية في مستويات الحكم المختلفة ، ويقصد بالشعب هنا ، شعب المحافظة أو الولاية ، أو شعب الإقليم ، كما يقصد بـ ” حق تقرير مكانته السياسية ” حق تقرير المصير في الوحدة أو الانفصال ، أو الانضمام لأي جوار جغرافي.
وتلزم المادة نفسها ، الحكومة الاتحادية بدعم مثل هذه المطالب – وفقا للمواثيق والقوانين الدولية التي وقعتها الجمهورية اليمنية .
وهذا يعني بوضوح أن الحكومة الاتحادية ستكون في مواجهة مع المجتمع الدولي إن هي وقفت ضد مطالب السلطة المحلية في محافظة المهرة مثلا، بإعلان سلطنة المهرة المستقلة ، أو الانضمام لسلطنة عمان. أو إذا رفضت تأسيس إمارة في الجوف أو مارب ، أو انضمام المحافظتين ، أو إحداهما على سبيل المثال ، إلى السعودية.
لقد جرى صياغة المادة السادسة من مشروع الدستور بذكاء لا يخلو من خبث ، بعد أن تم تمريرها ضمن مخرجات الحوار ك ” محدد دستوري ” حيث تمت الصياغة بأسلوب غامض دون تفصيل. لكن ، بالعودة إلى المواثيق الدولية المشار لها في المادة ، يتبين المعنى بوضوح.
21سبتمبر .. الصدمة الأعنف
عملت سلطة هادي وحكومتي باسندوة و بحاح ، بدفع من الخارج ، على تهيئة الظروف المناسبة لتمرير مخطط التقسيم بهدوء وأمان . وكان إقرار حكومة باسندوة للجرعة القاتلة في أسعار المشتقات النفطية ، وما سبقها وتلاها من تهويل باحتمال عدم قدرة الحكومة على دفع مرتبات الموظفين ابتداء من 2015 ـ كما جاء على لسان وزراء في حكومة بحاح ، وفي تصريحات للمبعوث الأممي جمال بنعمر ، يهيئ لمناخ مناسب ، يؤدي إلى إشغال الشعب وإلهائه بهمومه واحتياجاته الأساسية اليومية .
وفي هذا السياق ، كتبت وزيرة الإعلام نادية السقاف مقالا استعطافيا مذلا بصحيفة الجمهورية في نوفمبر 2014 ، بعنوان ” السعودية لن تتخلّى عن اليمن مهما قِيل ” .
كان ذلك التهويل يأتي في سياق التمهيد ليتقبل اليمنيون أن يتجرعوا وصفة السحرة بالأقلمة والتقسيم شديدة المرارة ، وأن يلتزموا الهدوء والصبر إذا ما أحسوا مبضغ الجراح تعمل في جسد الوطن .
وفي اللحظة التي هم فيها السحرة بتجريع الوصفة لليمنيين ، وقبل أن يستل اليمنيون سكين الدستور ويبدأون في تقطيع أوصالهم كالمجاذيب ، بزغت شمس الحادي والعشرين من سبتمبر 2014 ، فكانت كعصاة موسى ، لينقلب السحر على الساحر .
كان وقع الصدمة على النظام السعودي في هذه المرة أشد وطأة من سابقاتها ، وهو يرى أدواته ووكلاءه وسحرته في اليمن يتساقطون كأحجار الدومينو .
وفي حالة من الغضب الهيستيري ، قرر النظام السعودي التدخل مباشرة ، وبدأ بالحشد والتجييش لفرض وصفة السحرة بالقوة .
بعد عام من العدوان الهمجي الشامل الذي تقوده السعودية على اليمن ، وبمقارنة خطوط المواجهات العسكرية الملتهبة بخطوط خارطة الأقاليم ، سيتبين بما لا يدع مجالا للشك ، أن تفكيك اليمن هو الهدف الذي يسعى الخارج بقيادة السعودية على تحقيقه ، قبل العدوان وبعده .
حتى الآن ، لا يبدو أن آل سعود سينجحون في تحقيق هدفهم باليمن ، فهل سننتظر كثيرا حتى يؤمنوا برب اليمنيين قبل أن يغرقوا في الوديان والصحارى اليمنية ؟!.
أزال وأنصار الله
حتى الآن ، لا يزال الكثيرون يحاولون فهم الموقف المتساهل للرئيس هادي وحلفائه في الداخل والخارج خلال المواجهات المسلحة التي خاضها أنصار الله وسيطروا فيها على محافظة عمران حتى وصلوا إلى مشارف العاصمة صنعاء.
وقد أضفت زيارة هادي لعمران بعد سيطرة انصار الله عليها ، وتصريحه المشهور حينها ، بأن عمران عادت إلى حضن الدولة ، غموضا أكثر حول موقف الداخل والخارج من تمدد أنصار الله وزحفهم نحو العاصمة صنعاء التي سقطت هي الأخرى تحت قبضتهم في الـ 21 من سبتمبر 2014م .
فهل كان ذلك التساهل فخا وقع فيه أنصار الله كما يقول البعض ؟! .
ليس هناك شك في تساهل سلطة هادي وعدم اهتمام حلفائه في الداخل والخارج بسيطرة أنصار الله على تلك المناطق ، ولكن ذلك التساهل الذي وصفه البعض تواطئا ، كان ضمن خطة الأقلمة أو التقسيم .
فقد كان مهندسو التقسيم ورعاته لا يجدون في سيطرة أنصار الله على تلك المناطق قضية تستحق الاستنفار الداخلي أو التدخل الخارجي . باختصار: كانوا يرددون في قرارة أنفسهم: دعوهم يأخذون حصتهم التي حددناها لهم على الخريطة ” إقليم أزال ” . وفي حال توقفهم عند تلك الحدود ، يكونون قد نفذوا أولى الخطوات العملية لمشروع التقسيم وأهمها بأيديهم .
لم يتوقف أنصار الله عند حدود إقليم أزال ، وكان موقفهم واضحا كما جاء في كلمة السيد عبد الملك الحوثي بتاريخ 20 يناير 2015م، حينما قال: ” نريد أن يكون اليمن كله لصنعاء ، وأن تكون صنعاء لكل اليمنيين ، آن تكون حضرموت لكل اليمنيين ، واليمن كله لحضرموت.. أن يكون اليمن كله لعدن ومارب ، وأن تكون مارب وعدن لكل اليمنيين … ” .
لقد كان هادي وحلفاؤه ينتظرون وقوع أنصار الله في “فخ التقسيم” لكنهم تجاوزوا الفخ المنصوب على حدود “أزال” فوقع خصومهم في “فخ الوحدة”.