سعاد ومنير وأولادهما .. الرحيل الفاجعة

> تركوا جرحا لا يندمل ، وخزيا وعارا لمن قتلهم

 

افتكار القاضي

لم تمض سوى ربع ساعة على عودتهما إلى المنزل مع أبنائهما الثلاثة رامي وأمجد ونوران من عند طبيب الأطفال لعلاج ابنهم مجد الطفل الثاني الذي لم يتعد عمره العاشرة عادوا سريعا إلى البيت وكأنهم على موعد مع القدر الذي لم يرحم براءة الأطفال ، وكانت (الفراشة) لا تزال مغروسة في يد الصغير لغرض استكمال جرعة العلاج التي قررها الطبيب

كان الوقت لا يزال مبكرا وعقارب الساعة تشير إلى الثامنة والربع من مساء يوم التاسع المشؤوم من فبراير 2016 م عند رجوعهم إلى المنزل ،كانت الأم ، “سعاد حجيرة” في صالة البيت مع أولادها ولا تزال مرتدية (عبايتها ) وحقيبتها على كتفها ، فيما اتجه الزوج ( منير الحكيمي) إلى غرفة النوم ربما لتغيير ملابسه وحينها حدث ما لم يتصوره لبيب جارتها التي تسكن الطابق الأعلى من المنزل غادرت شقتها قبل نصف ساعة فقط على وقوع الجريمة المروعة ، وكأن القدر حثها على الخروج لتنجو أو لأنها أحست بشيء ما غير طبيعي في داخلها ( قلق ، خوف ، رعب ، كرب ، ضيق …) فخرجت لزيارة شقيقتها لتتخلص من الضيق الذي جثم على صدرها فجأة. في لحظات مريرة وبعد اقل من 15 دقيقة،على دخول سعاد وزوجها وأبنائهما المنزل، كانت الفاجعة التي هزت اليمن والضمير العالمي
– إن كان له ضمير – عندما أغارت طائرة العدوان الغاشم بصاروخ شديد الانفجار على مخزن مليء بالزيوت والكيروسين يقع خلف المنزل وطال جزءاً من المنزل الذي يتكون من طابقين وبدروم مليئ بالزيوت التابعة لصاحب المخزن وأطلقت النيران ألسنتها المخيفة وتصاعد الدخان بكثافة شديدة من قوة الانفجار واشتعال الكيروسين واحتراق الزيوت .
لم يترك العدوان أي فرصة لمنير أو لزوجته للنجاة أو حتى للاستغاثة فباشر المنزل بصاروخ آخر اخترق أسفل الطابق الأول باتجاه غرفة النوم التي كان منير لا يزال فيها وبدأ ركام المنزل وخرسانته تسقط فوق الأسرة الصغيرة .
في مشهد مأساوي ولحظات عصيبة مر بها الزوج وزوجته وأبناؤهما .
أطلق منير صرخات مخنوقة فيما تبقى له من نفس قبل أن تفيض روحه نتيجة الركام الجاثم عليه وكثافة الدخان واللهب المتصاعد من البدروم ومن الهنجر الذي يحترق ، بضعة كلمات مختنقة لزوجته يطلب منها أن تنجو بنفسها مع أولاده إن استطاعت ، أو تلملم أولادها إليها قبل أن يتلاشى صوته ويختفي إلى الأبد .
لم تكن الزوجة وأولادها أفضل حالا من منير لكنها حاولت أن تستغيث لعل أحد يسمعها ، أخذت الطفلة نوران (ثلاث سنوات ) وضمتها إلى صدرها ، وتحسست بيدها الأخرى ولديها رامي وامجد وهما يصرخان إلى جوارها و ملابسهما تحترق من أرجلهما ، حاولت الأم بما تبقى لها من طاقة ومن نفس يختنق نزع ملابسهما التي تحترق من فوق جسديهما الصغرين وهما يصرخان ..بابا بابا ماما ماما .. إننا نموت ، نحترق ، ساعدونا ، أنقذونا .. الأم تصارع الموت وتحاول أن تفعل شيئا من اجل أبنائها ولعلها استطاعت أن تنزع جزءاً من ملابسهما التي تحترق فوق جسدهما قبل أن تخور قواها وينقطع نفسها ويدها الأخرى تضم طفلتها بقوة إلى صدرها ، وينقطع نفس الصغيرة اختناقا وتفيض روحها الطاهرة وهي على صدر أمها التي لحقت عانقت روحها روح طفلتها كما عانقت روحا ولديها والتقت الأرواح الأربعة مع روح الأب والزوج لتحلق جميعا في الفضاء المديد صعودا إلى من سيقتص لها ، كانت لحظات عصيبة ومشهداً مأساوياً يبكي القلوب دما قبل العيون ، وتهتز له الأحاسيس والمشاعر الميتة.
لم يستطع احد من المجاورين الذين توافدوا للمكان أن يفعل شيئا فألسنة اللهب المتصاعد من احتراق الزيوت تملئ المكان والدخان الأسود الكثيف يسد الأفق ولا وجود لأي عربة إطفاء .. ظل الجميع ينتظر حتى هدأت النار وتلاشى الدخان وبدأوا يقتربون من المنزل ويزيلون أجزءاً من ركامه للوصول إلى منير وزوجته وأبنائه ،وضلوا كذلك حتى الفجر ولم يصلوا إلى جثة الأم وأولادها إلا صباح اليوم التالي ، فيما بقي منير تحت الأنقاض ستة أيام ، ولم يتم العثور على جثته إلا بعد إحضار حفار ( بوكلين ) ظل يفتت الخرسانة الإسمنتية لسقف الطابق الذي جثم على منير حتى وصل إلى مكانه ظهر اليوم السادس من وقوع الكارثة المروعة ، وفي اليوم السابع من الجريمة التي ستظل عالقة في ذهن اليمنيين سنين طويلة – شيعت جثامينهم الطاهرة إلى مثواها الأخير بصنعاء ، لكن ما يثير الدهشة والاستغراب وما يبعث على الحيرة انه بعد عشرة أيام على دفن الجاثمين تبين أن من تم تشييعهم هم منير الحكيمي وأبناؤه فقط دون الأم وأن الذي شيع معهم كان جثمان شخص آخر ( رجل ) ، وفجعت الأسرة مرة أخرى وأصيبت بصدمة كبيرة وتجددت أحزانها .
وشيع جثمان (سعاد ) الذي كان أول جثمان يستخرج من تحت الأنقاض في انتظار جثمان الزوج ليشيعا معا ، لكن شاءت الأقدار أن تشيع بمفردها عقب صلاة الجمعة الموافق بعد قرابة عشرة أيام من دفن الزواج وأبنائها وليكون آخر جثمان يدفن بجوار زوجها وأولادها قبل يوم على استشهادها ذهبت سعاد إلى عملها في التلفزيون قناة الإيمان حاملة معها فكرة لبرنامج جديد ، بعد أن ضاقت ظروفهم المادية والمعيشية كثيرا ، و لاقت فكرتها استحسانا من مسؤول البرامج في القناة على أن تناقش الفكرة في اليوم التالي بحضورها ، لكنها كانت على موعد آخر مع القدر الذي غيبها إلى الأبد عن عملها وعن أسرتها وعن زملائها وعن الدنيا بأكملها .
رحلت الزميلة المبدعة سعاد حجيرة التي هز موتها ضمير الإنسانية، ورحل معها زوجها المخرج في تلفزيون قناة اليمن وأولادهم الثلاثة تاركين وراءهم جرحاً لا يندمل ، وحزنا لا يتبدد ، وآلاما لا يقهرها الكي ، وفاجعة لن تمحى من الذاكرة وخزيا وذلا وعارا لمن قتلهم ..

قد يعجبك ايضا