الغربي عمران
أعترف بأني قرأت بعض نصوص “دخان” أكثر من مرة.. محاولا اكتشاف ما يرمي إليه النص. فهل يتوه المعنى أثناء الصياغة.. أم أن ذائقتنا لم تتخلص من تأثير الواقعية؟
في هذه المجموعة جنحت الكاتبة لنوع من الغموض.. ما تاه المعنى على حساب المبنى .. لا أعرف هل ذلك بوعي أم الفكرة غابت وحضرت رغبة الكتابة قبل نضوج المعنى.
لا يزال أحد نصوصها في مجموعتها البكر منطبعاً في ذاكرتنا حين جسدت معاناة المرأة لحظات تحضير طعام أسرتها في المطبخ “الديمة”. راسمة عدة لوحات سردية لمعركة حامية.. نفذتها كأنها راقصة بالية. تلك القصة نموذج للقصة شكلا وجوهراً. وهي من قدمت الكاتبة بقوة وجعلت الجميع يشير إلى ميلاد قاصة متمكنة.
“دخان” 44 صفحة, 10 نصوص, صادرة عن مؤسسة فكرة, القاهرة, 2016م.
عندما أبدأ في كتابة حول عمل قرأته.. يتبادر إلى ذهني سؤال: ما هو النقد؟ لأجدني أظنه -وبعض الظن حق- مجرد رأي يحتمل في كل الأحوال المجاملة .. وبذلك يحسب نقداً سطحياً. أو أن يظن القارئ نفسه قاضياً يطلق الأحكام حول جودة العمل من عدمه.. وهنا يتحول النقد إلى تجريح.. أو أن يكتب القارئ إلى ناصحاً وما أبخسه من دور.
النقد مدارس .. منه ما يحسب على علم الجمال.. وهذا هو أسهل الآراء النقدية.. وهو أن يكتفي الناقد بمواطن الإيجاب في النص. ومنه مدارس أخرى قد لا أفهم معظمهما .. ولا أكلف نفسي بتتبعها كوني مجرد قارئ متذوق.
وكوني متذوقاً أسطر رأيي حول دخان.. وأفضل أن يكون لك على شكل ملاحظات ليس إلا:
– عنوان الغلاف جاء منسجما مع الغلاف الذي غلبت عليه العتمة.. وعدم التناسق بين حجم اليدين و الوجه.. إذ إن الكف كان يجب أن يكون أكبر .. لكن ما يلفت أن الأصابع تستنجد محاولة التمسك بأحرف حروف دخان .. وهنا قاربت الكاتبة من الوصول إلى مغزى العنوان”دخان” وتلك العينان الشبقتان للوجه لا تتناسب واستغاثة الأصابع.
دخان وردت كمفردة بشكل صريح في أكثر من نص .. كما وردت بشكل غير مباشر في بقية النصوص. ولذلك عبرت عن ضبابية أكتنفت جوهر النصوص.
– عتبة لها دلالات صادمة “شكرا لك نجمة” شكر بطعم الإقصاء.. ورائحة الموت.. إذ إن نجمة المعنية وقد أحالتها الكاتبة بعد استخدامها إلى النفي .. فهي من كتبت نصوصاً رائعة.. زينت ذلك الاسم غلاف المجموعة الأولى. هنا يذكرنا هذا الشكر بسنمار.. حين يتحول الشكر إلى رصاصة إعدام. عتبة تشير إلى مرحلة تجاوزتها الكاتبة.. بل وتوحي بأنها ستتجاوز مرحلة حاضرة في ذهنها تعمل من أجل إنجازها.. لنتوقع أن تتكرر تلك المفردة “شكرا” بما تحمله دلائلها الحادة. أو القتل الرحيم.
– هناك اختلاف بين نصوص المجموعة الأولى وهذه ..لكن هل جاء ذلك الاختلاف ضمن سياق تطور فني؟ نعم.. لكن ذلك الفني جاء على حساب نكوص أو ذبول الفكرة .. أو وضوح رسالة النص إلى المتلقي. إذا إن المضمون بهت في بعض النصوص.. وسيطرت الضبابية بمساحات ملفتة.. وتلك الضبابية تقود القارئ إلى محاولة فهم رسالة النص بمعاودة قراءة النص للصول إلى مغزاه .. وهنا قد يصل وقد يتوه.
– ما يميز هذه المجموعة أن الكاتبة حافظت على أسلوب التهكم والسخرية. إضافة إلى الجرأة في تماسها مع الممنوع.. بل واعتلاء صهوته دون خوف.
– في نصوص هذه المجموعة كان الرواة شخصيات ذكورية.. حتى حين تكون الأنثى هي الراوية يكون الذكر فاعلاً أساسياً في مجريات أحداث النص. وهذا يذكرنا بأصحاب مصطلح السرد النسوي أو المبرقع.. ونصوص أبو شارب. وأيضا مصنفي الأدب الأسلامي..وغير الإسلامي. ومن يجدون لفراغ ذواتهم مجال لتصنيف الأدب.. بينما الأدب لا يصنف حسب الجنس أو الدين أو العرق. فالأدب فن ينبلج من روح الإنسان.. ومن يطالع نصوص مجموعة دخان سيجد أن الكاتبة عبرت عن الرجل بنفس النسق الذي تعبر فيه عن الأنثى.
– لهاث الجمل المتلاحقة.. حتى أن لها إيقاعاً .. تلك الجمل القصيرة بنبضها المتسارع أعطت نصوص المجموعة ما ينقصها من حيوية.. تلك الحيوية التي لا غنى للقصة القصيرة عنها بل والسرد بشكل عام.
– في جل نصوص المجموعة نجد أن الفرد يواجه الكل.. في “برمودا” السارد أمام جميع ركاب الطائرة.. في “أحدب” الجميع لديهم حدبات والسارد كذلك لكنهم حين يحلقون يختلف عنهم بملامسته للقمر والنجوم.. في “زليخة” يقول مطلع النص”إحساس رائع يمتلك كل كياني وأنا أراهم يتوافدون نحوي ولا يراهم غيري…. الخ” وأيضا في “بلقيس” نجد صاحبة الضفيرة في مواجهة أصحاب الشوارب. هنا نجد الفرد لدى الكاتبة في مواجهة الكل. ولذلك يبرز صراعاً يبدأ هادئا ليحتدم ثم تنتهي تلك الصراعات بنهايات مفتوحة. ليغيب تنوع النهايات.. وتبقى تنقنية واحدة سيطرت على كل النهايات.. كما سيطر الغموض. إلا أن الصراع أعطى الشخصيات نوعاً من التنامي وإن ظل البوح والجدل الداخلي للرواية هو الأعم.
– تلك الضبابية.. جعلت من النصوص شبيهة بالمتواليات القصصية لاشتراكها في أكثر من سمة.. وكأن الضبابية أطرتها عناقيد حكائية متداخل.
– هناك خيال باذخ.. فكثير من الكتاب يقعون في الاتكاء على الواقع أيمانهم بأنه الأصل.. أو يعتمدون على التجارب الذاتية.. وهذا جمود. قد يغفر لأي كاتبة أو كاتب ذلك عند البدايات.. لكن بعد أن يصبح صاحب إصدارات يكون ذلك معيب.. وعليه ألتخلص من الدوران حول الذات. يقين أن الواقع هو الأساس.. وأن الكاتب كالطير الذي يوثب من على الأرض.. لكن تحليقه يكون الأكثر .. فالأرض هي الواقع والتحليق هو الخيال الأكثر إمتاع ودهشة من أي واقع مهما كان.
– هناك مفردات في غير مكانها .. وقد يحسب ذلك من التجديد .. مثل”المجون” في جملة” سقوط أكيد محفوف بالصخب والمجون والصلوات” فلا يوجد مجون أثناء سقوط طائرة إذ إن مفردة أخرى كان يجب أن تحل محلها مثل والهلع أو الرعب. وأيضا مفردة أخرى “طمست”
في جملة ” طمست النجوم وسط سحب كثيفة” وبديل طمست غاصت ..أو اختفت أو احتجبت.. لكني أجزم بأن الكاتبة تسعى للتجديد وإبراز صور مغايرة ضمن تجديد خطابها.
– جل النصوص نجد أن الراوي ينساق إلى بوح ممتع.. لكنه لا يأتي على حساب بروز الفكرة.. فالبوح أو الحوار الداخلي للشخصية يؤثر على النص القصير ويثقله.
– النص الأخير”استغماية” برز كنص ترميز بامتياز.. وهو ليس النص الوحيد بل إن الكاتبة تمتلك قدرة على تقديم نصوص ذات بؤر رمزية مذهلة.. وأذكر منها نص بلقيس و أرنب وغيرها.
المجموعة جاءت مغايرة ومختلفة عن إنجازات الكاتبة السابقة.. فهل ذلك تطور.. أم تجربة تضاف لها.. ويحسب لها التجريب الذي يشعر القارئ بالفارق بين ماضي نصوصها.. الذي لولاه لما وصل الأدب والفن إلى ما وصل إليه من تطور.. فالتجريب يعمل على فتح أفاق جديدة يبتدعها الكاتب عن وعي. أما إن كان دون وعي فلا يحسب له.
هي تحية لإصدار جديد.. وكاتبة مثابرة تراهن على غدها.
Next Post