لقد جاء دين الإسلام العظيم بالدعوة للوحدة والأخوة بين المؤمنين، معتبرا هذه الدعوة هي أحد أسباب القوة والتماسك والنجاح، ومعتبرا التفرق والتنازع سببا للفشل والضعف والتفكك.
وأي مجتمع بشري في العالم لا يمكن أن يرتقي إلا بضوابط واضحة في تماسك النسيج الاجتماعي، ولن يجد الأعداء طريقة أفضل ولا أحسن لتدمير المجتمع المستهدف من تفكيك أواصره ونشر العداوة والبغضاء بين أبنائه، بأسباب وعوامل متعددة.
وقد كان شعار بعض دول الاستعمار الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد، والموافقين للقرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة، هو شعار فرق تسد.
ويبدو أن هذا الشعار صار سياسة اختراق دولية ورسمية لكثير من الدول ذات الهيمنة والغطرسة والتي تريد التدخل والتحكم في شؤون غيرها من الدول.
ولا شيء أعظم تفريقا للمجتمعات من الدعوات الطائفية والمناطقية والمذهبية والعنصرية والعرقية وما يشبهها.
لقد جاءت كثير من التوجيهات الربانية في القرآن الكريم للمسلمين أن يحرصوا على وحدتهم وأخوتهم.
فقد ذكّر الله عز وجل المسلمين كيف كانوا قبل الإسلام أعداء متنافرين متحاربين، ثم أنعم عليهم بنعمة كبيرة جداً، ومنة جليلة، ألا وهي الأخوة وقرنها بنعمة الإسلام وترك الشرك، فقال عز من قائل:
﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾آل عمران 103.
وأكد مولانا عز وجل في كتابه الكريم على أخوة المسلمين وأن الواجب هو الإصلاح بينهم في وقت الاختلاف ومحاولة جمع كلمتهم بكل وسيلة، فقال:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الحجرات 10.
ولفت الله نظر رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أنه جمع قلوب المسلمين بفضله ورحمته بهذا الدين الشامل والكامل والعظيم، وأن المال والعطاء مهما كان كثيرا فلا يمكنه أن يكون سببا كافيا في تخليص النفوس من أمراضها في الحسد والبغض وفساد ذات البين، فقال جل وعلا:
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الانفال 63.
قال الإمام ابو جعفر الطبري في تفسيره عن هذه الآية يريد جل ثناؤه بقوله وألف بين قلوبهم (وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج بعد التفرق والتشتت على دينه الحق، فصيرهم به جمعيا بعد أن كانوا اشتاتا، وإخوانا بعد أن كانوا أعداء، وقوله (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو أنفقت يا محمد ما في الأرض جميعا من ذهب وورق وعرض ما جمعت أنت بين قلوبهم بقدرتك، ولكن الله جمعها على الهدى فائتلفت واجتمعت.
ووصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين أنهم رحماء فيما بينهم، وأذلة لبعضهم البعض، وأي قسوة أو شدة لديهم فإنما يوجهونها للكفار المعتدين، والمشركين الصادين عن دين الله القويم، فقال عز من قائل
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ الفتح 29.
وأرشد النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم أن المؤمنين لا بد أن يتعاونوا ويتأزروا فيما بينهم حتى يكونوا كالبناء الواحد أو كأصابع اليدين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ، يشدُّ بعضهُ بعضَا) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وجاء عنه عليه أفضل السلام وأتم التسليم أنه قال (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه البخاري ومسلم.. فشبه حالهم بحال الجسد الواحد في مواجهة الألم والوجع.
ونهى نبينا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه من تهاجر المسلمين, وتدابرهم وتباغضهم, فقال عليه الصلاة والسلام(لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا, كونوا عباد الله إخوانا, المسلم أخو المسلم, لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره, التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ) ثلاث مرات (وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم , كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) رواه الإمام مسلم.
وفي حال التأمل في هذا الحديث العظيم يعجب الإنسان من هذه التأكيدات النبوية الحاسمة في اعتبار الإنسان شريرا بما فيه الكفاية إن سمح لمشاعر الكراهية والاحتقار أن تملأ قلبه تجاه إخوانه المسلمين (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ).
وكل هذه النصوص الشرعية تدعو المسلمين للأخوة والوحدة والتماسك وتحذرهم من الاختلاف والتدابر والتباغض.
– تعريف الطائفية والمناطقية والعنصرية :
الطائفية : هي الدعوة للتعصب للطائفة سواء كانت دينية أو مذهبية أو عرقية أو أثنية, وهذه الدعوى للتعصب تكون بالحق وبالباطل, وفي الخير والشر, ويخرج المتعصبون الطائفيون من انتمائهم للأمة أو الشعب أو الوطن, لانتماءات ضيقة تفتت النسيج المجتمعي وتصبح سببا لصدامات كثيرة فكرية وسياسية ومسلحة أحيانا.
والمناطقية : هي الدعوة للافتخار بعنصر معين, واحتقار ما يخالفه واستهدافه, مثل عنصرية البيض ضد السود, أو عنصرية بعض الأعراق ضد غيرها مثل العرق الآري أيام النازية في ألمانيا ضد باقي الأعراق الأوروبية, والعنصرية العربية لبعض القحطانيين ضد العدنانيين والعكس, أو العنصرية الحزبية السياسية وإقصاء وتهميش المخالف واستهدافه.
وكل هذه الدعوات محرمة لا تجوز في الإسلام، ويجب مواجهتها والتخفيف منها والتحذير، ويجب على العلماء والخطباء والدعاة أن يقوموا بواجبهم الديني في تحذير الناس من هذه الآفات ونهيهم عنها ، وتذكيرهم بأخوة الإسلام والدين.
وقد خرج نبينا الكريم صلوات الله عليه يوما وقد جاءه خبر قيام بعض الأشخاص بدعوة متعصبة تحت شعار: يا للمهاجرين ويا للأنصار، فخرج غاضباً يجر إزاره حتى جاء للقوم، وهو يقول (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوخا فإنها منتنة) رواه الإمام البخاري.
فاعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الدعوات المتعصبة منتنة، وهو لفظ مأخوذ من النتن وهو القذارة المتناهية، مثل الجيفة التي تكون للجثث المتعفنة.
وكل دعوة طائفية ومناطقية وعنصرية في أمر منتن يجب التصدي له والتحذير منه تأسياً بنبينا الهادي صلى الله عليه وسلم.
– آثار وأضرار هذه الدعوات على المجتمعات:
للدعوات الطائفية والمناطقية والعنصرية آثار هدامة مدمرة على أي مجتمع تنتشر فيه وتتفشى، من أبرزها:
1 – أنها دعوة للتفرق والتنازع، والذي يعتبر سبباً رئيسياً للضعف والفشل، كما قال ربنا عز وجل في كتابة الكريم: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ الأنفال الآية 46 ، وتذهب ريحكم يعني قوتكم.
2 – أنها سبب في الكراهية داخل المجتمع، وفساد لذات البين، وقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمور ووصفها بالحالقة، قال (لا أقول الحالقة للشعر بل الحالقة للدين), كما جاء في نص الحديث.
3 – أنها باب للتدخل الأجنبي والعمالة للعدو ، فأي أصحاب دعوة طائفية أو مناطقية أو عنصرية لا بد أن يدفعهم تعصبهم ضد الطرف الآخر داخل الأمة والوطن للاستعانة بأي عدو ضده، لأن الكراهية تعميهم عن أي دعوات للتصالح والتسامح.
4 – أنها تضعف الإيمان، وتقسي القلب، وتمنع عن الخشوع في الصلاة، ومن تدبر القرآن، لأنها شر يزيح الخير من القلب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (وحسبُ أمرئٍ من الشرِّ أن يحقرَ أخاهُ المسلم) رواه الترميذي.
5 – أنها أسبب في استمرار الأمة والوطن في التخلف والانحطاط، لأن انشغال الناس ببعضهم البعض وبنزعاتهم البينية يجعلهم يغفلون عن أي بناء ورقي.
وتطور، ويوجهون جهودهم للتحذير من خصومهم والمكر بهم والكيد ضدهم وكل هذا يؤدي لطريق مختلف جداً عن طريق البناء والتنمية.
– نماذج من الآثار المدمرة للدعوات الطائفية والمناطقية على المجتمعات:
من أعظم النماذج التي نلمسها ونعيشها للأثر السيء لهذه الدعوات ما تتعرض له أمتنا المسلمة اليوم من ضعف وتفكك جعلنا في ذيل الأمم، وأطمع فينا الشرق والغرب، اعتداء علينا واستعمارا لديارنا وتتغييرا لسياساتنا وابتزازا لثرواتنا وشراء لذمم حكامنا إلا من رحم الله.
يوم كان المسلمون أمة واحدة، هويتهم هي الإسلام، وانتماؤهم للدولة الجامعة كانت لهم مكانة وعزة وقوة، يوم تفرقوا إلى دول متعددة متنازعة، واختلفوا إلى مذاهب وطوائف متعادية وصاروا مطمعا للأعداء، كما قال الشاعر محمود غنيم، متألما:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة
مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
كم صرّفتنا يد كنا نصرفها
وبات يحكنا شعب حكمناه
لي فيك يا ليل آهات أرددها
او اه لو أجدت المحزون أواه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد
تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
ولا عزة ولا قوة للمسلمين إلا بالعدوة إلى وحدتهم وتماسكهم، تحت راية كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك فإن الدعوة لهذه الوحدة وهذا التماسك هو من أوجب الواجب، ومن أعظم القربات إلى الله عز وجل، إن أخلص صحة النية، وابتغى وجه الله عز وجل في دعوته.
وقد فهمت كثير من أمم الأرض هذه القاعدة المهمة: إن العزة في الوحدة والتماسك، فعملت على أساسها ونجحت.
فهذه أوروبا دخلت في حروب طاحنة لقرون، بناء على خلفيات طائفية وعرقية، في القرنين السادس والسابع عشر بين الطائفة المسيحية والبروتستانتية التي أنشأها القس الألماني مارتن لوثر، والطائفة المسيحية الكاثوليكية التي كانت مهيمنة على الساحة المحلية هناك سابقا وتتبع بابا الكاثوليك الفاتكان بإيطاليا، وراح فيها عشرات الآلاف الضحايا، فبدأت في فرنسا ثم ألمانيا ثم توسعت إلى خارج ألمانيا وانتشرت في بلاد كثيرة من أوروبا، واستمرت لثلاثين عاما حصلت فيها مذابح كبيرة جدا، ولم تنته الحرب إلا في سنة 1648م، بعد أن اجتاحت الأوبئة والمجمعات كثيرا من تلك الدول، بسبب انهيار الدول والاقتصاد جراء الحروب، ويذكر بعض المؤرخين أن تلك الحروب أبادت قرابة نصف سكان ألمانيا حينها ، وما يقارب أربعة ملايين إنسان في فرنسا، وما يقارب 40% من بعض الشعوب الأوربية التي تعتنق أغلبيتها البروتستاتية مثل بريطانيا والدانيمارك وهولندا ، وما يقارب في الشعوب التي تعتنق غالبيتها الكاثوليكية مثل إسبانيا وإيطاليا وأيرلندا.
ولما هدأ الأوربيون من الصراعات الطائفية بدأت تنشأ بينهم الصراعات العرقية والسياسية ، فظهر الافتخار بالعرق الآري الجرماني، وكان سببا في ظهور النزعة النازية الألمانية، وكذلك ظهرت الروح الاستعمارية لكثير من الدول الأوروبية ، وبدأت بينهم صراعات طويلة ، تتوجت بالحرب العالمية الأولى من 1914م إلى 1918م ، ثم الحرب العالمية الثانية من 1941 إلى 1945م ، والتي راح ضحيتها بين أربعين إلى ستين مليون إنسان ، ودمرت معظم مدن القارة الأوربية الكبيرة وانهار الاقتصاد وعادت الأوبئة والمجاعات.
بعدها بدأت تعلو دعوات التقارب الأوروبي ، وإنشاء التكتلات السياسية والعسكرية ، وعقد معاهدات السلام واتفاقيات عدم الاعتداء وتتوج هذا بإنشاء منظمة الاتحاد الأوروبي الذي صار شكلا أوليا للوحدة الأوروبية والعملة المشتركة والبرلمان المشترك مما ساعد في استقرار الاقتصاد وارتفاع معدلات النمو والاندفاع نحو الصناعة والعلم والتنمية.
ويمكن وصف الوضع الأمريكي بشكل مقارب، حيث تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية حالة الضعف والتفكيك بعد الحرب بين الولايات الشمالية ” الصناعية” والجنوبية ” الزراعية” داخل الولايات المتحدة بعد قرار تحرير العبيد ، فكانت حرب طاحنة لم يستقر المجتمع والدولة إلا بعد تجاوز آثارها ، والعودة للوحدة، والقضاء على دعوات الانفصال الجنوبية التي كانت تمزق الولايات المتحدة الأمريكية حينها.
والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ، كما جاء في الأثر ، ولذلك فإن الأمة المسلمة يجب أن تستلهم من تلك التجارب الحديثة الدروس والعبر عن خطورة التفرق والتنازع.
– خطر الدعوة الطائفية على المجتمع اليمني اليوم:
لاحظ كثير من اليمنيين مؤخرا زيادة وتيرة الدعوات الطائفية في بلادنا ، وأن بعض القنوات والمواقع والصحف تركز على هذا الأمر صبا لزيت العداوة على نار الفتنة.
ولم نكن نعرف في بلادنا مثل هذه الدعوات أو الفرقة ، أو الاصطفاف الطائفي والمناطقي ، فجميع اليمنيين يعرفون أن مساجدنا متداخلة يصلي الشافعي خلف الزيدي والعكس ، ولا يعرف أكثر الناس اختلافا أو انتماء مذهبيا متعصبا.
كما أن أبنا جميع المناطق اليمنية يتعايشون فيما بينهم بمحبة وتداخل، ويعتبر الانتماء لليمن هو الانتماء الرئيسي للجميع ، وهذا الأمر كان من نعم الله الكبيرة علينا في بلادنا.
واليوم يحاول أهل الفتنة أن يوقظوا هذه العداوات والفتن في بلادنا ، ويجب على أهل العلم والدعوة والإرشاد أن يكونوا في مقدمة صفوف الرافضين لأي دعوة خبيثة لإيقاض الفتن الطائفية والمناطقية ، وبذل كل الجهود الممكنة في الحفاظ على وحدة الصف وأخوة المسلمين ، وهذا نوع من الجهاد الكبير الذي يتماشى مع روح دعوة الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ربه عز وجل.
الشيخ/ محمد طاهر أنعم
ورقة عمل مقدمة في ملتقى
علماء ودعاة أهل السنة في اليمن