> ما شهدته من مفاجأة عدوانية عكست سَبْق الإصرار والترَّصُد لتدمير البِلاد أرضاً وإنسانا
محمد محمد إبراهيم
ما بين الساعة الثانية عشرة، والواحدة والنصف بعد منتصف الليلة (صبيحة 26 مارس 2015م) كان على أبواب ونوافذ منازل صنعاء والحديدة وغيرها من حواضر اليمن العريقة، أن تتزحزح، إن لم تفتح عنوة للسماح بموجة الضغط الهائل بالدخول إلى غرف النوم، ميقظاً الرعب في نفوس النساء والأطفال.. اهتزاز عنيف مصحوب متزامن مع انفجار موحد قضى مضاجع الليل أرضاً وسماء.. لم تعرف أسبابه.. خيّل لكل حي أنه صوت تفجير إرهابي طال مرفق ما قريب، وكما لو أن الحي هو وحده من يعيش لحظة الرعب.. غير أن اليمنيين جميعاً كانوا على موعدٍ مع مفاجأة من العيار الثقيل والصادم لمنطق العقل وقيم الجوار، إذ لم يكن في وارد أجندتهم ولو بمجرد التفكير أن جارتهم السعودية، ستتحول إلى جارة سوء بين موت ملك وصعود آخر..
ففي صنعاء توقع البعض لحظتها أن عاصفة مدارية مصحوبة بصواعق رعدية، ورياح قوية تمكنت من فتح النوافذ، وزحزحة الأبواب، لكن بعضهم ذهبوا غيلة دون أن يتوقعوا أو يعلموا سبب حتفهم المجهول.. ومن نجا منهم، فصحى في غرف العناية المركزة، ليتساءل وهو يستعيد ذاكرته: ما الذي حصل..؟! وهل مات الجميع..؟
بعد لحظة الصوت الذي صم أرجاء العاصمة لانبعاثه من جهاتها الأربع، هرعت لفتح التلفاز قناة العربية الحدث.. فتكشف التلفاز بخطوة بطيئة على شريط أحمر كتب طرفها عاجل، وصوت مذيعة صفراء ذكرني بإذاعة الـ(بي بي سي ) ليلة الغزو (الإنجلوأميركي) للعراق، الإذاعة التي غيرت خطابها في لحظة لم يتوقعها العالم العربي، لتتغير بناء عليها الصورة الذهنية المرسومة تاريخ مهني عريق لـ»بي بي سي».. وهو شأن «العربية الحدث» التي كانت قريبة من كل يمني، طوال أزماته الصعبة الربيعية على مدى خمسة أعوام، لتصدم كل يمني في تلك اللحظة بصورة ذهنية شكلتها الابتسامة الصفراء، والتجاعيد المكتظة على وجه تلك المذيعة، ذات النبرة العجائزية المقيتة، وكما لو أنها عجوز البسوس، تعلن للعالم حرباً جديدة، (تريد هادي رئيساً، واليمن ممزقاً).. وفيما أنا متسمر أمام التلفاز على أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات، أدارت المذيعة ظهرها دورة بغرور الفتنة على العربية الحدث ليستبين خلفها مشهد الطيّارين متعددي الجنسيات وهم يغادرون صالة الإعداد لخارطة العدوان في إحدى قواعد آل سعود الجوية.. لتؤكد أن هذا المشهد هو بداية انطلاق «عاصفة الحزم» ضد ما أسمتهم الانقلابيين..؟ ليسأل الجميع نفسه: من أنقلب..؟ وعلى من أنقلب ؟! وأين الرئيس المنقلب عليه..؟ خصوصاً بعد مرور ما يقارب أو يزيد على الشهر من دخول البلاد في فراغ رئاسي بعد تقديم الرئيس هادي استقالته للبرلمان..
سخف الشعارات
الأغرب في تلك الساعة هو توالي الأخبار العاجلة من كل قناة، دخلت في دائرة الارتزاق، حيث إعلان دول التحالف التي باركت بعضها سيطرتها على جميع الأجواء اليمنية وتحييد القوات الجوية في كل قواعدها في صنعاء وعدن وتعز والحديدة ومارب وصعدة وغيرها.. مؤكدة أن ذلك انتصار تاريخي، وكما لو أن حُلُم ليلها العدواني يؤمن بأن الصباح سيأتي على إعلان صنعاء للاستسلام دون أي قيد أو شرط.. وليس أمامها بعد شل حركتها الجوية، غير ذلك وهو ما كان يؤكده احد المحللين، الذين لم تتوقف يده عن إزاحة «غترته» إلى خلفه ليظهر العقال الأسود، ويتضح وجهه المبتسم بنصر عاصفتهم التي حققت أهدافها بنجاح، معرباً عن ثقته الكبيرة، بأن المعركة المتبقية ستحسم براً في غضون أيام بالكثير، في حال تأخر إعلان صنعاء بيان قبولها للخضوع والطاعة لأسرة آل سعود..
ومن تلك اللحظة أطلت غربان الجدل السياسي على قنوات الإعلام المشترى، لتكشف عن حجم الترصد الخبيث للإيقاع باليمن وتدميرها، وتحويله إلى سوق سياسي واقتصادي للخليج، ووصمه بتبعية الضعف والارتهان.. كان الجميع يتألق في الخروج عن السياق الواضح، حيث الحديث يدور عن طهران وخطرها وانكسار شكيمتها، في صنعاء، ليسأل كل عاقل نفسه عن خطر شعب فقير عاش خمسة أعوام من الصراع السلطوي -الذي غذته دول الخليج عياناً بياناً- حتى أنهك اقتصاد البلاد، وعطَّل حركة التنمية تماماً.. وما ليلة (26) مارس 2015م التي لا تمحى من ذاكرة اليمنيين، سوى فنتازيا انفجارات لألغام الحقد الدفين الذي بيّته نظام آل سعود التوسعي، على جارته الجمهورية اليمنية، سعياً منه لتدمير كل مقومات الخارطة اليمنية أرضاً وإنساناً، وما إيران وخطرها والانقلاب الصالحي الحوثي سوى ذريعة لا يمكن لها أن تغطي قبح جريمة العدوان..
الرضوخ.. «حُلُم لَيْل»
كانت تلك الليلة المفاجأة لكل يمني، محطة تحول بالنسبة لليمنيين المنتظرين فرج أزمة استدامت خمس سنوات منذ بدء الربيع العربي، ليدركوا لحظتها أن الدرب طويل وأن ليس ثمة مفر من الصمود والصبر لامتصاص ما هو أسوأ من تلك الليلة.. كما كشفت بربرية الهجمات درجة عالية من سطحية تفكير العدوان الذي حاول ليلتها عبثاً إقناع العالم بخطر اليمن على المنطقة، بعد أن أقنع الحليف الأمريكي بأن مسألة إخضاع اليمن تتطلب أياماً فقط، إن لم تكن ساعات كالتي تبقت من ليل 26 مارس 2015م.. غير أن الصبح اليمني شعَّ مبتسماً، على غصة الغدر المسيجة بمعنويات الأقوياء العظام الذين دوماً كانوا وسيبقون أكبر من أن يرضخوا أو يستكينوا على مرّ العصور مهما كانت قسوة الضربات الموجهة، فإن طالت البنية التحتية العسكرية والمدنية، فما أنهت فيض البشر والتاريخ المتدفق من اليمن.. لقد بدا ذلك الصباح مشهوداً بالمشاركة الشعبية لانتشال الضحايا من بين الأنقاض، وإنقاذ الجرحى الذين يصعدون مبتسمين من تحت ركام الخراب الذي أحدثه العدوان في كل الأحياء السكنية والمدنية المجاورة للمواقع التي أعلنوها ناهيك عن قصفهم لبعض المنازل عمداً، بقناعة أنها ثكنات أسلحة للخطر الصالحي الحوثي، ولم تكن سوى مأوى لأسرٍ فقيرة نامت مع أطفالها فلم يطلع عليها الصباح، وبعضها لم ينجو منها سوى طفل، فقط ليحمل طوال حياته كارثة اليتم والثأر ممن أباد جميع أفراد أسرته.. كان الشعب بعزيمته المعْهُودة وبأسه الشديد الموصوف بها في كتابه العزيز حين خاطبوا ملكتهم بلقيس، الملكة الشوروية الأولى في العالم.. :»نحن ألو قوة وألو بأس شديد».. سواعدهم لا تكل في التعبير الرافض والثأر الكبير الذي يتشكل مع كل طبقة يرفعونها من ركام خراب العدوان، لينكشف تحتها أطفال قضوا غدراً، أو مواشي (أغنام) تحمل على ظهروها صواريخ بالستية خطيرة على الخليج..
انفضاح من أول طلعة
تارة ٌ، كان التحضير للعدوان على اليمن يطبخ بسرية تامة بين الرياض وواشنطن، وتارة أخرى يتم الإفصاح عنه في طيات نقاشات أميركية صهيونية في الكونجرس، تبدي تذمر إسرائيل، من الخطر الإيراني في اليمن، فيما نظام آل سعود الحَلِيف الاستراتيجي لأمريكا يلتقط هذه الإشارات، لتنطلق أهداف عاصفته في ظاهرها من كبح الخطر الإيراني على الخليج، متكئاً على طلب الرئيس اليمني المستقيل عبد ربه منصور هادي، بحجة استعادة الشرعية التي منحته إياها الجماهير والمبادرة الخليجية، إضافة إلى الهدف الأكثر قبحاً المتمثل في إنقاذ الشعب اليمني من الحرب الداخلية والفقر، ومساعدته لمواكبة ركب التقدم، ولكن بماذا بالقاعدة وداعش وبأفتك الأسلحة المحرمة دولياً..
ولعل ما يفضح محاولة العدوان السعودي تبيئة تلك الأهداف في سياقات توهموا قبولها داخليا وخارجيا، هو ما كشفته النيويورك تايمز فيما بعد ليلة العدوان بأيام، من تفاصيل سجال شهدته الساعات الأخيرة التي سبقت بدء العدوان السعودي على اليمن، حيث دار ذلك السجال في كواليس البيت الأبيض بواشنطن، بين السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، والرئيس باراك أوباما ومستشاريه، حيث أكد الجبير أن إيران انتقلت إلى الفناء الخلفي للمملكة بمساعدتها للحوثيين في اليمن، مبدياً استعداد السعودية وجيرانها في الخليج لبدء حملة لدعم الحكومة اليمنية العاجزة في هجوم «سيكون سريعاً نسبياً».. وطلب الجبير من واشنطن بصفة رسمية الدعم والمساعدة، ليعطي أوباما موافقته للبنتاجون بتقديم ما طلبته الحليفة المملكة من دعم، رغم اعتراض ومخاوف عدد من المستشارين، حسب تعبير النيويورك تايمز.
التقرير ألمح إلى أن المداولات استمرت يومين في البيت الأبيض لإقناع الجانب الأمريكي بصعوبة، حيث عبّر حينها عدد من كبار مستشاري رئيس الولايات المتحدة عن مخاوف حقيقية إزاء الهجوم السعودي في اليمن، وبأنه «سيكون طويلاً، ودموياً وغير حاسم.»
أما باطن تلك الأهداف، فيعكس مخطط آل سعود وانتظاره طويلاً لاغتنام فُرْصَة الصراع اليمني الداخلي لمواصلة سياسة نظامهم التوسعي للوصول إلى أراضي يمنية جديدة، تربط الجغرافيا السعودية بالبحر العربي عبر حضرموت، ومن ناحية ثانية تدمير اليمن أرضاً وإنسانا. فعلى الأرض يستهدف العدوان تدمير الطرق والجسور والعمران والبنية التحتية والفنية في المطارات والمعسكرات والقواعد الجوية، ومنصات الصواريخ، وكانت النتيجة خلال عام واضحة في خارطة الضرر الكبير في مقومات بنية اليمن. وعلى صعد الإنسان إنزال ضربة موجعة تستهدف العمق البشري اليمني العسكري والمدني.
أهداف العملية العسكرية بصفة عامة تكشفت عن مغالطة متعمدة، فشرعية هادي، ومسؤولية دول التحالف تجاه استعادة هذه الشرعية ليست سوى استغفال لقطاع من اليمنيين الذين انجروا وراء هذه الذريعة، واستغفال للشعوب العربية التي تشارك أنظمتها في العدوان، فشرعية الحاكم اليمني، لا يحميها أو يلغيها إلا الشعب اليمني. وإذا كانت المبادرة الخليجية هي داعي العدوان، لتخلّف طرف عن الرضوخ للحلول، فإن رعاة المبادرة الخليجية نفسها، لم يلتزموا باللائحة المزمنة، فشرعية هادي في المبادرة عامين فقط، كما أن الضغوط السعودية أعاقت الحوار الوطني، بفرض أمور لا يعلمها العامة، ربما تضمن هذه الإشارة تقرير جمال بن عمر النهائي لمجلس الأمن، وهو التقرير الذي تدخل المال والنقود السعودي للإطاحة به.
كما أن الأهداف الاستراتيجية المعلنة لطلعات تلك الليلة تركزت حسب تلك القنوات ليلتها على شل الحركة الجوية اليمنية وتحييد القوات الجوية ودفاعاته وبنيتها التحتية، والإعلان أن أجواء اليمن باتت منطقة محظورة، بعد قصف المطارات اليمنية وقواعد الدفاع الجوي، وغرف عمليات المراقبة في مطار صنعاء وهناجر الصيانة والتسليح في صنعاء، ودمرت طائرات حربية(سوخوي) وطائرات الـميج (29)، ومعسكرات الجيش في دار الرئاسة بصنعاء والشرطة العسكرية ومعسكر القوات الخاصة، وكذلك معسكر ريمة حميد جنوب صنعاء، ومقر قيادة المنطقة العسكرية السادسة (الفرقة الأولى مدرع سابقاً)، وقيادة قوات الاحتياط في «معسكر السواد» جنوب صنعاء الذي يضم عدة معسكرات تابعــة للحــرس الجمهوري.. غير أن التحوُّل الفاضح الذي تبلور على الأرض، هو أن تلك الليلة شهدت قصف مركز على مناطق وأهداف مدنية سمع بها وعاينها العالم، حيث تم استهداف حي النصر السكني بالعاصمة صنعاء مُخلفاً 24 شهيداً من الأبرياء بينهم (6) أطفال، (6) نساء، (12) رجلاً, و43 جريحا وتدمير (37) منزلاً منها (14) منزلا تدميرا كلياً وتدمير (16) سيارة مملوكة للمواطنين الساكنين بالحي..
الردود المحلية والدولية
في عصر يوم الخميس 26 مارس 2015م شهدت العاصمة صنعاء سيلاً بشرياً عارماً، كأول تعبير محلي عن الغضب والرفض الشعبي للتدخل السافر في الشأن اليمني، ومثلها خرجت في عموم المدن اليمنية الكبرى مسيرات جماهيرية حاشدة تحدياً للعدوان السعودي، ورفضاً للوصاية وتأكيداً للسيادة ومطالبات واسعة برد حاسم. ورفع المشاركون في المسيرات شعارات ولافتات منددة بالاعتداء الهمجي الخليجي الظالم على الشعب اليمني الحر الأبي، الذي سيثبت للعالم قدرته على الصمود والتصدي لهذا العدوان الغاشم والدفاع عن أرضه وسيادته باعتباره حقاً مشروعاً تؤكده كافة الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية، معتبرين العدوان انتهاكا فاضحا وخطيرا لوحدة وسيادة اليمن. مؤكدين أن «زمن الوصاية والإذلال» قد ولّى ولن يخيف أبناء اليمن هذا العدوان الظالم على أبنائه وسيتم الرد عليه عاجلا أو آجلاً.
ودعت المسيرات كافة أبناء اليمن إلى الاصطفاف الوطني وتعزيز وتماسك أبنائه في وجه العدوان الخارجي، ودعت المجتمع الدولي وأحرار العالم إلى السعي لوقف هذا العدوان استنادا إلى مواثيق الأمم المتحدة، ما لم فإن الجيش والشعب اليمني بكل فئاته وطوائفه جاهز للرد على العدوان بضربات سيتألم لها آل سعود.
وعلى الصعيد الدولي أدانت الخارجية الإيرانية في أول رد لها العملية العسكرية في اليمن، معتبرة أنها «اعتداءات مدعومة من الولايات المتحدة».. فيما عبرت خارجية الصين عن قلقها البالغ بشأن الوضع المتدهور في اليمن.. وحثت المتحدثة باسم الوزارة «هوا تشون يينغ»، في مؤتمر صحفي، كل الأطراف على الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة باليمن، وحل النزاع عن طريق الحوار.
الاتحاد الأوروبي انتقد العملية العسكرية، معتبرًا أن «التدخل العسكري في اليمن ليس حلا»، وقالت الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، «فريديريكا موغريني»، في بيان صحفي، إن «الأحداث الأخيرة في اليمن ساءت بشكل كبير للوضع الهش أصلا في البلاد، وسيكون لها عواقب إقليمية خطيرة».
واعتبرت دمشق العملية «عدوانًا سافرًا».. فيما أعربت الخارجية الروسية عن «قلقها الشديد إزاء التطورات في اليمن»، وجاء في بيان لها، أن «عملية السعودية وحلفاءها في اليمن لن تؤدي إلى تسوية الأزمة».
ورفضت العراق، العملية العسكرية في اليمن، فيما رفضت الجزائر المشاركة في التدخل السعودي العربي في اليمن، معتبرة حركة أنصار الله طرفاً أساسياً في المعادلة السياسية اليمنية، مشددة على ضرورة إجراء حوار سياسي.