مذاب الوادي في الجوف .. واحة من الاخضرار والغيول العذبة
استطلاع/ عبدالباسط النوعة
محافظة الجوف تلك المحافظة المترامية الأطراف والتي كانت موقعا تمركزت عليه الكثير من الحضارات اليمنية القديمة وفي زيارة إلى إحدى مناطق الجوف قبل فترة من الزمن كنا فيها على موعد مع واد خصب وواسع يعد من اجمل وديان المحافظة وعلى مقربة من هذا الوادي ( مذاب) وجدنا بعض آثار لمواقع كانت شاهدة على حضارات سادت تلك المنطقة.
من صنعاء توجهنا صوب تلك المنطقة في مهمة لمعرفة حقيقة تعرض بعض تلك المواقع للنبش والتخريب وغياب تام لهيئة الآثار ، وصلنا إلى مدينة حرف سفيان تلك المدينة التي نالت نصيبا كبيرا من الدمار على مدى الحروب الست وحتى من قبل طائرات العدوان ، من حرف سفيان سلكنا طريقا من منتصف المدينة باتجاه اليمين وقبل الوصول إلى وادي مذاب شاهدنا واحة من الجمال تأسر الأفئدة منطقة غاية بالاخضرار تقع بين حرف سفيان التابعة لمحافظة عمران ووادي مذاب التابع لمحافظة الجوف.
تعتبر محافظة الجوف من أهم المحافظات اليمنية وأكثرها ثراءً بالمعالم والمواقع التاريخية والآثارية فقد كانت مهداً للكثير من الحضارات التي شكلتها دويلات قديمة تنافست فيما بينها للاستيلاء على هذه المدينة ودارت على رحاها الكثير من الأحداث التي أسهمت وبشكل بارز في تنوع وعظمة التراث الذي تزخر به الجوف ولم يشفع لهذه المحافظة مدى ما تحويه من ثراء حضاري لتنال ما تستحقه من الاهتمام والرعاية وظلت في غياب تام عن البرامج التنموية بشكل عام ولا تزال مغلقة أمام السياح والباحثين المهتمين بالتاريخ وبدون الجوف يظل هناك الكثير من تاريخ اليمن لا يزال مجهولاً أو مطموراً تحت الأرض.
وادي مذاب الواقع في برط المراشي إحدى مديريات محافظة الجوف ومذاب منطقة واسعة جدا مترامية الأطراف برغم أنها تحوي عدداً من السكان الذين استوطنوا هذه الأرض حديثا إلا أنها تفتقر إلى أبسط الخدمات ويخيل للزائر أنه يعيش في عصور مضت منذ مئات السنين باستثناء بعض المظاهر المستوحاة من العصر الحديث فلا مدرسة ولا مركز صحي والطريق معبد بواسطة الأهالي ولا يزال يشكل وعورة في بعض المناطق تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع سنوردها على لسان بعض السكان هناك.
محاولات نبش
تعتبر هذه المنطقة التي زرناها آخر نقطة في محافظة الجوف تفصل بينها وبين محافظة عمران تحديدا مديرية حرف سفيان التي نتجه منها عبر خط اسفلتي يربط بينها وبين برط التي تحوي ثلاث مديريات برط العنان وبرط المراشي رجوزة وبعد خروجنا من مديرية حرف سفيان بكيلومترات قليلة عبر الخط الاسفلتي إلى برط نتجه إلى منطقة وادي مذاب يسارا عبر طريق معبدة وعلى جنبات الطريق رأينا العديد من المقابر القديمة والقبور المبعثرة هنا وهناك رافقنا عدد من الساكنين في تلك المنطقة كمرشدين سياحيين لنا وعلى رأسهم الأخ محمد بن ناجي شريفة وجميعهم رافقونا إلى المناطق والمواقع التي يعتقد أنها تحوي معالم أثرية قديمة وهذه المنطقة من وادي مذاب تسمى «مقارض» ولهذا الاسم دلالة وهو اسم قديم اطلق على هذه المنطقة التي تحوي الكثير من القرى ذات الأسماء القديمة ومقارض جمع قرض وهي شجرة كانت مشهورة قديما حسب ما يقوله كبار السن هناك وهي شجرة تشتعل بالنار أكثر من الغاز ويقول كبار السن إنها كانت تستخدم قديما لاستخراج الذهب والفضة من الأحجار وفعلاً وجدنا من تلك المنطقة بقايا أفران مدفونة تحت الأرض والرماد يظهر بجلاء في إحدى الحفر الموجودة هناك وهذه الحفر محاطة بأحجار مبنية بشكل جيد ويوجد إلى جانبها الكثير من الأشياء الملفتة للنظر عبارة عن أحجار مرصوفة بشكل جيد ومربعات لا زالت بقاياها ماثلة للعيان وغيرها وبالقرب من هذه المواقع توجد مقبرة ذات بناء دائري الشكل ، ولهذا يقول شريفة : إن هذا المواقع كانت عبارة عن سوق كان مزدهراً في عصور سابقة لا سيما في عهد الحميريين وهذا متوارث عبر الأجيال حول هذه المنطقة سمعه الكثير من آبائهم وأجدادهم وكانت هذه المنطقة طريقاٍ تجارياً هاماً بل كانت ملتقى لطرق كثيرة كونها تمثل منطقة حدودية بين ثلاثة اتجاهات أو محافظات «الجوف- عمران- صعدة» والتي لا تبعد عنها سوى مسافات قصيرة.أشكال وزخارف قديمة وبالقرب من تلك المنطقة يوجد مجرى للسيول يحوي هذا المجرى على أشكال حجرية بحجرت بأشكال تشبه السلاحف بالإضافة إلى وجود نقوش قليلة ورسوم رسمت على قاع هذا الوادي وبعد أن اجتزنا مجرى السيول وصلنا إلى منطقة ذات ارتفاع بسيط فيه صخور تحوي بعضها مجموعة من الزخارف والنقوش عبارة عن رسومات لغزلان وسيوف وكذا رسوم لجمال بالإضافة إلى رسم كف وقد تعرض هذا الموقع لنبش من قبل مجهولين لكن هذا النبش لم يؤثر كثيراً لأن بعض الأهالي أدركوا هذه العملية التي حدثت في وقت متأخر من الليل قبل أشهر أطلقوا النار باتجاههم الأمر الذي جعل أولئك المعتدين يلوذون بالفرار وهذه الرواية سمعناها من عدد من الأهالي الذين أكدوا أنهم سوف يحمون تلك المواقع من أي اعتداء أو عبث إلا أنهم حثوا الدولة ووزارة الثقافة وهيئة الآثار أن يقوموا بواجبهم إزاء حماية هذه المواقع والعمل على دراستها والتنقيب فيها وإجراء المسوحات الأثرية اللازمة والتأكد هل هذه المواقع أثرية أم لا.
وأوضح الأخ بن شريفة أن هناك أماكن متفرقة ومتباعدة تعرضت للنبش قبل فترة من قبل مجهولين كانوا يأتون في أوقات متأخرة من الليل ويعتقد أن هؤلاء يأتون للنبش في أماكن محددة سلفا وفق خرائط قديمة فهناك مواقع لا أحد يستطيع التعرف على أنها مواقع قديمة لأنها أصبحت أرضاً عادية لا يوجد بها معلم أو شيء يدل على أنها أثرية مثلا وجدنا على أرض كنا نعتقد أنها عادية آثارا لتراب محفور اتجهنا إلى هناك فوجدنا حفرة مبنية بشكل متقن وقديم نبشت لكن الذي قام بالنبش لم يكمل الحفر فطلع عليه النهار قبل أن يكمل فمن الذي أدراه بهذه الحفرة المبنية التي طمرت بالتراب فأصبحت وما جوارها وكأنها أرض عادية جدا وبعد هذه الحادثة أصبحنا والأهالي حريصين أكثر حتى في الأوقات المتأخرة من الليل.
حصن مياق
وبالقرب من هذه المواقع توجد تلة أشبه بحصن ترتفع عن سواها من المواقع بشكل كبير وهذه التلة تعرف باسم «تلة مياق»أو قرن «مياق» حيث يعتقد الأهالي أن هذا الموقع كان يحوي قلعة حصينة لإحدى أميرات الحميريين والمعروفة باسم «مياق» إلا أننا وعند صعودنا إلى تلك التلة وجدنا أنها تغيرت بشكل كبير فالأحجار تحولت من أماكنها ولا يوجد ما يدل على أنها كانت قلعة أو بقايا قلعة بحسب ما قاله أحد الاختصاصيين في مجال الآثار والذي كان معنا في هذه الرحلة الأخ عبدالتواب المشرقي الذي أكد أن المنطقة بكاملها قديمة جدا وربما يعود تاريخها إلى ما قبل الحميريين والدليل على ذلك أن النقوش والزخارف التي وجدناها عبارة عن مخربشات وهذه المخربشات تسبق عصر الكتابة بزمن بعيد وهي أقدم وفي العهد الحميري كانت الكتابة قد وجدت وكانوا أهل علم وثقافة وحرف وغيرها.ويؤكد أخصائي الآثار أن الاحتمال الكبير هو أن هذه المواقع تعود إلى العصر البرونزي وما يدل عليها هو تلك المقابر والبنايات التي تبنى على شكل دائري.
غيول للمياه العذبة
بعدها اتجهنا إلى سائلة وادي عشر حيث غيول الماء العذب والتي أصبحت تجاورها مزارع عامرة خضراء نظرة تزرع الدخن والذرة وحتى القطن وهذا الغيل لا يجف أبداً إلا عندما يشتد الشتاء كثيرا ومع هذا وبواسطة الحفر لعدة سنتيمترات يوجد الماء ولكن كما يقول الأهالي أنهم يفتقدون إلى المعدات الحديثة والوسائل المناسبة للري والتي من خلالها يتم استغلال مياه الغيل ودعوا الصندوق الاجتماعي للتنمية إلى الإسهام معهم في هذا المجال ومساعدتهم بوسائل ري حديثة وكذا في عملية الزراعة حيث والمنطقة بحاجة ماسة إلى هذه الخدمات كونها أراضٍ زراعية خصبة مهددة بالجرف من السيول العارمة التي تمر في السائلة التي تعتبر جزءاً من وادي مذاب.وهنا يقول أحد أهالي برط المراشي إن منطقة وادي مذاب مشهورة عبر الأزمان بأنها أرض خصبة جدا فقد اختار منها الإمام صافية له وكما هو معروف عن الإمام أنه كان يختار أراض خصبة يتخذها مزارعاً له وهذا يدل أن مذاب من أخصب أراضي اليمن ولكن أهملت بسبب الحروب التي دارت رحاها في هذه المنطقة بين ذو محمد وحرف سفيان وخلافاتهم عليها وقد استمرت الحروب إلى وقت قريب ربما إلى ما قبل عشر سنوات والآن هدأت هذه الحروب.
ويقول محمد عباد من اهالي المنطقة : ما تناقلناه عن الأجداد إن منطقة مذاب تحوي العديد من المواقع الأثرية وفيها الكثير من القلاع والحصون القديمة التي لا زالت آثارها أو بقاياها ماثلة حتى الآن وتحتاج إلى التنقيب.
سيول جارية
ويوضح عباد أن وادي سيل كما هو متعارف عليه أو وادي مذاب وبحسب ما يقوله كبار السن أنه ذو سيول جارفة ويقال إن سيلاً ضخماً اجتاح هذه المنطقة في أحد الأزمات وطمر المنطقة بكاملها ولهذا قد تحوي الأراضي الكثير من الآثار القديمة ربما قرى ومناطق بأكملها وهناك مثل قديم متعارف عليه في برط «مذاب يا عايبة شليت طفل المزبية» والمزبية عبارة عن حاضن للطفل يصنع من جلد الغنم وهو مشهور في برط وراء هذا المثل قصة أن امرأة من مذاب خرجت إلى الوادي لجلب الحطب وكان معها طفل في المزبية وضعته على إحدى الأشجار وبدون سابق إنذار أو أمطار جاءت لتلك المنطقة، وإنما حدثت الأمطار في أماكن بعيدة وجبال تصب سيولها في الوادي جاءت سيول عارمة اجترفت معها الشجرة التي كان الطفل عليها فعندما عادت المرأة لأخذ الطفل وجدت السيول قد أخذته فقالت هذا المثل الذي أصبح يتداول في برط بشكل كبير.
ويقول الأخ محمد شريفة إن هذه المنطقة لم تكن مأهولة بالسكان وكان أول من سكن هذه المنطقة قبل عشرة أعوام وهو أصلا من برط العنان واستطاع أن يقنع أصدقاء وأقارب له بالسكن في مذاب وجميعهم اقنعوا آخرين حتى وصل عدد الساكنين فيها »59« أسرة يبلغ تعدادهم 400أكثر من نسمة وأنشأوا العديد من القرى أبرزها حسب ما قال الوالد محسن بن هادي أحمد «مقارض- الكوادر- عجمرة- كغلان- العابص- صنع حمة عشر- قمزان- هجل المشاريع- الشاجن- وخشم عشر» ودعا الوالد محسن الدولة إلى الالتفات إلى هذه المنطقة ومساعدة الساكنين فيها وأهم شيء المدرسة والمركز الصحي التي لا توجد منها شيء في كل تلك القرى.تعاون بين الأهالي- وهنا يؤكد الأخ بن شريفة أنه وبالتعاون مع الأهالي عمل على تدريس الأطفال من خلال تخصيص منزل كان قد بناه لنفسه ولكنه آثر أن يكون مقرا مؤقتا للمدرسة حتى تقوم الدولة ببناء مدرسة وفيها من المدرسين أربعة تعطى لهم مرتبات رمزية يفرقها الأهالي ولها ثلاث سنوات وتستقبل الطلاب حتى صف خامس ابتدائي وفيها الكثير من الطلاب .
الزائر لتلك المنطقة يلاحظ وجودا كثيفا للنوب الطينية هنا وهناك إلا أن الكثير منها أصبحت أطلالا والسبب في ذلك يرجعه الأهالي إلى الحرب التي كانت دائرة هناك بين حرف سفيان وبرط وهو نفس السبب الذي أثر على الكثير من المعالم والمواقع الأثرية من خلال انتزاع الأحجار من أماكنها واستخدامها من بناء متارس للمواجهات.