تعز… حين يستيقظ التاريخ
كنت تحدثت مطلع عام 2011م في حوار مع الملحق الثقافي بالثورة قائلاً: أن تعز عبر التاريخ تفجر الحدث لكنها لا تصنع تحولاً، وقد غضب عليّ الكثير حينها من الأصدقاء من أبناء الحالمة، واعتقد أن الأمر لم يتجاوز قانون التاريخ ولا محدداته الموضوعية لكن يحلو للكثير من أبناء جلدتنا المكابرة أو الاستغراق في الوهم، لقد تحدثت الأيام عن الكثير من الحقائق التي لم يفقه أحد تفاصيلها وكل حقيقة لها جذر تاريخي، بيد أننا نقرأ التاريخ بترف ذهني مبالغ فيه في حين نجد التاريخ يعيد إنتاج نفسه في تفاصيل اللحظات الحضارية المتجددة ولا نرى أن حالة التنافر التي برزت على سطح الأحداث في يومنا إلا حالة تتكرر مع كل موجه عنف أو حركة صراع تحدث تحت سماء اليمن وفوق أرضه ولن يتغير الحال طالما وما تزال ندور في دائرة التماهي ولا نعترف بالمعيقات الجوهرية لدوائر التطور التي تحدث عنها فلاسفة هذا الزمن فالقضية التي تنحو منحى الثبات توفر بالضرورة عناصر تجدد الأحداث بذات الصبغة التي كانت عليها في الماضي، فالتنافر والتضاد بين تعز ومناطق الشمال وشمال الشمال ذات عمق تاريخي ولها مظاهر متعددة بعضها تحدث عنها التاريخ وبعضها ظل حلقة مفقودة في سلسلة الأحداث، لكن الباحث لا يعدم وجودها في تلافيف الذاكرة الشعبية ولن نستغرق كثيراً في الجذر التاريخي ولكننا سنشير إلى بعض الملامح لتلك الحالة التنافرية من أحداث القرن الماضي كأحداث المقاطرة التي وقفت ضد سلطة الإمام يحيى حميد الدين الذي تسلم السلطة في عام 1918م وكان تمرد المقاطرة على سلطته في عام 1922م، يقول البردوني في كتابه “اليمن الجمهوري”.
فلم يكن القادة والجنود كلهم من الزيود بل كان أغلب القادة والعساكر من العدين ومن جبل حبيش ومن الحجرية نفسها فقد كان عبدالوهاب نعمان عامل الحجرية وأحد القادة ضد قلعة المقاطرة كما كان عبدالواسع نعمان أحد القادة وخلفه نجله بعد مقتله على إدارة منطقة المقاطرة فلم يدخل قلعة المقاطرة جماعة زيود وإنما اتباع السلطة من شوافع وزيود وكان على رأس القادة والجنود علي بن عبدالله الوزير وهو على نهج فقهاء المنطقة في المسائل الأصولية وإن كان غير مقلد فهو أقرب إلى الشافعية .. والمتأمل في حديث البردوني في الفقرة السابقة يجد تفنيداً للخطاب السائد الذي كانت تستند إليه الانتفاضة التي حدثت في مطلع القرن الماضي وهو يتشاكل إلى حد التطابق مع الخطاب الذي نجده اليوم على لسان الكثير من أصدقائنا من أبناء تعز، وكأن عجلة التاريخ تدور في ذات المكان ولم تبرحه ولنقف قليلاً عند هذه الفقرة للبردوني في كتابه نفسه حيث يقول:
قيل: أن المقام اليحيوي تلقى أخباراً عن تحرك لعبد الوهاب نعمان يشي بأنه يعقد صلات مع سلاطين المحميات في الشطر الجنوبي وأنه يريد أن ينفرد بسلطته الحجرية كلها مستغلاً تذمر المقاطرة بعد إخمادها عسكرياً، بل أن نعمان تجاوز الحجرية وراسل شيوخ لواء إب لفصل ما كان يسمى اليمن الأسفل عن ما كان يسمى اليمن الأعلى … الخ.
وبقراءة تموجات الزمن الجديد الذي يشهد كل الأحداث منذ تفجرها في 2011م إلى اليوم يجد الظلال السياقي للتاريخ هو نفسه وهو ظاهر في كثير من الكتابات والمواقف والخطابات الإعلامية والسياسية وفي الأحاديث اليومية لدهماء الناس ممن يتقاطرون على المقائل والمنتديات والمقاهي الشعبية لا يبدو الأمر تغير كثيراً عن ماضيه خاصة والمرء يشاهد الوسائط الاجتماعية ويقرأ مفردات خطابها وظلاله وموجهاته النفسية والاجتماعية والثقافية، ومن شاهد تلك المقاطع والمشاهد وتأمل في مفردات الناس وهم يتبعون الجثث المسحولة في شوارع تعز بعد دخول من يسمون أنفسهم بالمقاومة بعض أحياء تعز الغربية ومنها حي بير باشا لا يجد عناء كثيراً في التقاط التماثل بين الأحداث والبواعث التي حدثت في الماضي القريب أو تحدث اليوم.
لقد كنا نظن في تعز حالة تحولية وحالة مدنية وحالة ثقافية وإنسانية وإذا بنا نذهب إلى التاريخ الذي استيقظ في تعز وبصورة لم نكن نتوقعها وكأن تعز كلما أرادت أن تبدع شيئاً جديداً صدمتها الحقائق الموضوعية فعادت إلى مربعاتها القديمة التي انبثقت منها لتبدع لنفسها كوناً جديداً ولذلك لن أعتذر لكل أصدقائي من أبناء تعز الذين عاتبوني كثيراً فأنا ما أزال عند موقفي القديم، تعز تفجر الحدث ولكنها لا تصنع تحولاً، وبمثل ذلك يتحدث واقع تعز اليوم.