صوت العقل الذي ينقص المنطقة

على غير عادتها جاءت الدورة الخامسة لأسبوع التقارب والوئام الإنساني العماني (14-17/‏‏فبراير/‏‏2016م) هذا العام، والمنطقة العربية والشرق أوسطية تشهد تحجّرا غير مسبوقٍ من جاهلية الصراعات الطاحنة، التي تتحرك مجريات أحداثها على صفيح ملتهب، وتتسارع تداعياتها باتجاه كارثة حرب كونية لا ترحم.. ففي هذا التوقيت الحرج الذي تبدو فيه المنطقة بأمس الحاجة لأسابيع تُكرَّس فيها كل الطاقات البشرية المستنيرة لإشاعة رسائل رصينة من هذا النوع القيمي، الحامل في أنساقه رؤى حكيمة تنأى عن كل أسباب الفرقة، وبواعث التنافي، لصالح قيم المشترك الإنساني بين بني البشرية جمعاء.. وهي الرسالة التي أكدتها سلطنة عُمَان منذ وقت مبكر باذلة جهودا عملية صادقة باتجاه إرساء ثقافة الحوار كمنهج حتمي لا يتحقق أي تعايش أو تقارب إلا به.

ولعل القيمة الأهم في مسار هذه الدورة لأسبوع الوئام والتقارب الإنساني – التي ينظّمها سنوياً مركز السُلطان قابوس العالي للثقافـة والعُلوم التابع لديوان البلاط السلطاني – تكمن في مرتكزين مهمين أولهما في كون سلطنة عمان، مثّلت خلال مسيرة نمائها نموذجاً للاستقرار السياسي، والتعايش العقدي والسياسي والمذهبي، والسلام الداخلي، بل كانت ولم تزل داعية على الدوام جوارها الإقليمي ومحيطها الدولي إلى التعقّل واعتماد الحوار وسيلةً لحل كل الخلافات، والمرتكز الثاني في ما تضمنته جلسات هذا الأسبوع الإنساني البحت، من تتبع مشرق لكل ما يمكن أن يجمع ولا يفرق، يُصْلح ولا يُفسد، ومن قراءات علمية مُلْهِمَة لخطاب سياسي وديني معتدل، يتبناه الإعلام المفتوح، في إطار تبيان جوهر الدين الإسلامي القائم على الوسطية والتسامح والتعايش الإنساني، في ظل صعود فُجائي متتابع خلال العقد الأخير لتيارات دينية تطرفية طالت تعقيداتها الوجه المشرق لإنسانية الإسلام.
إن سلطنة عمان هي الدولة العربية والشرق أوسطية الأكثر ملائمة من الناحية السياسية والأمنية والثقافية والإنسانية في إقامة مثل هذه الفعاليات التي تتسق وحضور السلطنة بإسهاماتها الكبيرة في مختلف دول العالم الشقيقة والصديقة بمساندة الأعمال الأممية والإنسانية، إذ يأتي هذا الأسبوع في إطار مشاركة السلطنة في تنفيذ القرار الأممي رقم (65/‏‏‏‏‏‏5) لعام 2010م، القاضي بتخصيص أسبوع – من شهْر فبراير من كل عام- للوئام بين الحضارات، منطلقة في هذه التظاهرة الهادفة، من نهج سياسي راسخ في بُنيان دولتها اعتمد الحوار كمبدأ حياة، ودرب خلاص حقيقي من مآزق الصراعات الداخلية أو الإقليمية أو الدولية..
إن تركيز الأسبوع الإنساني على «الإعلام ودوره في التقارب والوئام الإنساني» خطوة بالغة الضرورة في هذه الظروف التي جعلت الإعلام مبتدأ كل حرب، بل صار فتيلا مشتعلاً يؤجج خطاب الإقصاء السياسي والعصبية المذهبية والإيديولوجية، فحاول الأسبوع العماني تحفيز أهم أهداف مهنة الإعلام المتمثلة في تعزيز التواصل بين الثقافات الإنسانية، بل جعل من الإعلام الإيجابي روح ووجدان تقارب الأجيال والشعوب والأمم والحضارات الإنسانية، ومنبراً للقبول بالآخر، ومفتاحا سحريا- إن صلح- لا يخطئ طريق آفاق السلام والاستقرار في العالم، عبر زيادة وعي الرأي العام بمقتضيات قواسم التعايش الإنساني المشتركة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وهي القواسم التي حثّت عليها كافة الأديان السماوية المنظمة للمسار القويم لمصالح البشرية جمعاء. إن الأسبوع العماني يعدّ وثبةً جديدة ، تضاف لحصيلة المكاسب العمانية التراكمية لـ(44) عاماً من جهود ترسيخ مداميك السلام الداخلي، إذ عمد السلطان قابوس بن سعيد منذ توليه مقاليد الحكم في (23/‏‏7/‏‏ 1970م) إلى تعزيز مبدأ التعايش والعدالة والمساواة بين مواطني السلطنة تحت مظلة دولة عادلة، يوجب دستورها النافذ على مؤسساتها تحقيق: (العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين العمانيين)، و(منع كل ما يؤدي للفرقة، أو الفتنة، أو المساس بالوحدة الوطنية).. هذا داخلياً، أما خارجياً، فيوجب الدستور السلطاني انتهاج (مناصرة الحق والعدل والسلام والأمن والتسامح والمحبة والدعوة إلى تعاون الدول من أجل توطيد الاستقرار وزيادة النماء والازدهار ومعالجة أسباب التوتر في العلاقات الدولية بحل المشكلات المتفاقمة حلاً دائما وعادلاً يعزز التعايش السلمي بين الأمم ويعود على البشرية جمعاء بالخير العميم).
أخيراً.. إن ما قدمه هذا الأسبوع من رؤى علمية وفكرية ودينية وإعلامية مسّت معضلات الحاضر، يعكس صوت العقل الذي ينقص المنطقة والعالم، وحاجتها الملحة لنهج الحوار، واحترام المواثيق الدولية، كسُبُلٍ فُضْلى لمعالجة النزاعات، التي باتت تهدد السلم الإقليمي والدولي ، إذ وصلت الأزمة السورية- مثلاً- إلى شفير حرب عالمية ثالثة، رغم ما بذلته السلطنة من جهود ومحاولات إنسانية مع كل الأطراف السورية المتصارعة، والدولية المؤثرة في الصراع السوري ـــ السوري، داعية الجميع إلى الحوار، غير أن الأمور أضحت اليوم على مقربة من إعلان الحرب بين روسيا وتركيا على الأرض السورية بداية وانطلاقا إلى دول المنطقة الأخرى.. وهي النتيجة التي تذكرنا بقول الشاعر العربي الحكيم دريد بن الصمّة:
(فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أرَى
غَوَايَتَهُمْ وَأنَّنِي غَيْرُ مُهْتَــــدِي
أمَرْتُهُمُ أمْـــرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلاَّ ضُحَى الْغَدِ ).

قد يعجبك ايضا