العراقيون .. بين أباليس الديمقراطية وهواة الذّهب الأسود

محمــد محمــــــد إبراهيـــــم

اليوم بعد أن وصل العراق إلى الدرك الأسفل من أسوأ احتمالات التشظي، يعترف إياد علاو – أول رئيس وزراء للعراق أتى به الاحتلال الأمريكي- في حوار صحفي لـ” الشرق الأوسط” أن العراقيين خُدعوا بديمقراطية ما بعد صدام، ليترحموا الآن على نظامه..
هذا الاعتراف رغم بديهيته إلا أنه كان صادماً لي، خصوصاً وأنا تابعت قبله نقاش محتدم في إحدى القنوات العراقية بين أكثر من طرف سياسي، وكلهم ينحرون الحاضر، ويقتتلون خلافاً واتفاقاً على الماضي، إذ يختلفون في مسألة أن صدام كان مُجْرِماً تجنّى على السنة والشِّيعة، وعمد إلى تصفية خصومه الشيوعيين، لكنهم يتفقون على أنه كان رجل دولة، وأنه تغلب على النَفَس الطائفي والمذهبي ووحّد العراقيين تحت مظلة، دولة قوية، فرضت ثقافتها بقوة السلاح..
جدلٌ سياسي عدمي كهذا، يعكس- بجلاء- ثقافة عربية بحتة، حيث أن العراقيين – كجزء من العرب- يبحثون عن مستقبل في غور جراح الماضي، ونزغات شياطينه، في الوقت الذي يعلمون فيه أن ضياع الحاضر يعني دمار المستقبل بكل أحلامه.. ولا يعلمون أن ما أهدروا- بهذا الجدل- ليس سوى عُمْرَ حاضرهم الافتراضي، وأن من مضى لا يمكن له أن يصلح ما أفسده على نفسه وعلى الناس، وليس بإمكانه –في المقـابل- حماية ما أصلحه لنفسه ومجتمعه ودولته.
لقد أفِل صدام، وبقي العراق مطعوناً بغدر أبنائه التواقين لديمقراطية القوى الدولية.. استلم الأمريكان وحلفاؤهم بعد الاجتياح حقول النفط، ومكامن ومفاصل الثروات، واستلم العراقيون بغداد عاصمة العروبة، ومدن العراق -ولكن- حُبْلَى بصراعٍ لا يولد إلاّ الفِتَن، وثكالى هدّ الحقد الأعمى معالم وجودها.
لقد خرج منها الغزاة حاملين خرائط البلاد وثرواتها لشركات عملاقة تمثلهم في كل مكان، ودخلها العراقيون حاملين نياشين الحرية والديمقراطية والانعتاق من الدكتاتورية.. لم تكن راياتهم خافقةً، إلا بالوَهْم، بل وملطخة بدماء بعضهم، وعار الحاضر، وخزي المستقبل، الذي تترجمه براكين “داعش” الانتحارية في كل زاوية في المدن الكبرى والساحات والجامعات والمــدارس ودور العبادات، ومراكز التراث الحضاري والموروث الإنساني.
لقد اجتاح الحزن كل مشاعري على العراق الذي كان حضور دولته ضارباً في وجدان العرب والعالم.. اليوم يلوك العراقيون انتصاراتهم موتاً ودماء، ويدفنون إخوانهم جماعاتٍ ووحداناً، ويحتسون حرية ما بعد صدام، حقداً وخسراناً مبيناً، ليس لأنهم باعوا دولتهم باعتبارها ظالمة، وارتضوا تسليم كل شيء للغازي الوديع الآتي رحمةً بالعراق، وليس لأن صدام أُعْدِم بتلك الطريقة ورحل عن العراق، فهو وغيره ليس مخلداً، بل لأن العراقيين باعوا أنفسهم غيلة وعلى ملأ من العقل والبصيرة، لعالم الفوضى “الحلاَّقة” التي حَلَقَتْ ولم تزل تحلُق العراق أرضاً وانساناً، بشفرات الانعتاق والحرية.
لقد تهوّر -صدام حسين- في قرارته فأخطأ حين أساء الجوار لدولة الكويت الشقيقة، المعروفة بالإنسانية والعمل الخيِّر، حيث كانت ولم تزل قبلة للأمل والروح العربية الوحدوية، وصاحبة اليد الطُّـولى في التنوير والحراك الثقافي الفكري المبكر في الوطن العربي.. إنها الخطيئة التي تحولت إلى كارثة وثغرة دخل منها الغزاة إلى العراق، لكن هذا الخطأ لا يعني أن يحمل العراقيون رحيل دولة صدام على محمل الانتصار، ويظلوا يطعنوا فيه، والدولة التي أسسها وملأت الآفاق، فلا يوجد أمن واستقرار وسلام وحرية في العالم في منأى عن الدولة القوية والصارمة.
لقد رحل الدكتاتور ولم ينتظر، ليكون ذريعة اليوم لما يجري في العراق – وإن أراد أسرى عقد النقص والارتهان إلى ماضي عجزهم أن يعيدوا حال العراق وما يجري ويسيل من دماء إلى صدام- وعليهم وعلى كل عربي أن يسترجع التاريخ، وينصف أن صدام حسين رحل بعد أن بنى دولة راسخة المعالم والوجود الدولي والقومي، وجيشاً لم يكن أي جيش عربي أكثر منه صيتاً في الحضور العسكري، والبسالة، والنظام القوي ذي الشكيمة الأبرز في المخيلة الذهنية العربية..
لقد ذكرني اعتراف علاو، وخطاب أمريكا تجاه “داعش” بخطبة إبليس-لحظة إشهار توتبه في الجحيم:  (… وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي، فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم).. وكأن إبليس الديمقراطية يقول اليوم لكل عراقي: اقتل كما تريد أيها العرقي الأبي، فقد انتصرنا على الدكتاتور، وحررناكم من جبروته، لتنعموا بحقكم اليوم في الاقتتال داخل المُدِن، وفي المدارس والجوامع والساحات العامة.
أيها العراقيون في البلد الصديق اللدود، لكم أن تتمتعوا بحرية الاقتتال وتدمير المدن، ولكم ما تبقى من ثأر الماضي.. ولنا صحارى العراق وحقوله المتخمة بالذهب الأسود، وأنهاره العذبة وتاريخه العريق، لنستنزفها ونعبّد لكم طريق المستقبل.. ونعدكم أنه لن يكون هناك ثروة، تتصارع عليها أجيالكم القادمة، ولن يكون هناك سلطة، فسنحول العراق إلى غابة جميلة مترعة بالحرية، فليكن كل منكم قاتلاً قوياً، فالغابة لا يسودها إلاّ الاقوياء..

قد يعجبك ايضا