عرفت مسارات التاريخ خلال العديد من مراحلها الكثير من المواجهات بين عالم السياسة وعالم الأفكار. ذلك منذ العصور الغابرة وحتى العصر الراهن الذي غدا أكثر تعقيدا وتشابكا من حيث العلاقات التي تحكمه في ظل نظام العولمة. تلك هي إحدى المسلّمات التي تتردد على ألسنة الكثير من العاملين في الحقلين.
حالة العالم الذي نعيش فيه وطبيعة العلاقات الدولية السائدة وآلياتها ومرجعياتها تشكّل موضوع العديد من الكتب التي صدرت في الفترة الأخيرة. ومن بين هذه الكتب العمل الذي يقدم فيه «بيير هاسنر»، مدير الأبحاث في «مركز الدراسات والأبحاث في كلية العلوم السياسية بباريس» والأخصائي بالعلاقات الدولية وصاحب العديد من المؤلفات، كتابا تحت عنوان «ثأر الانفعالات» مع عنوان فرعي مفاده:«أشكال انبعاث العنف وأزمة عالم السياسة».
يضم هذا العمل سلسلة من الدراسات والمقالات التي كان نشرها المؤلف خلال الفترة الأخيرة المنصرمة في مجلاّت أو صحف أو كانت فصولا في كتب جماعية التأليف، وهو يصدرها في هذا الكتاب بعد أن أعاد النظر فيها على ضوء المعطيات الدولية المستجدة. كما يحاول بالوقت نفسه تحليل العديد من الظواهر المستجدة التي لا يشكّل التطرّف أقلّها خطورة.
إنه يقدّم فيها رؤيته للعالم وللعلاقات الدولية في الفترة المعاصرة حيث يثبت مقولة مفادها أن «أنماط القراءة التقليدية للعلاقات الدولية لم تعد فاعلة» بالنسبة لعالم اليوم. بل ويرى أن العلاقات الدولية «لم تعد مقروءة»، ذلك أن النظريات الأساسية التي سادت منذ القرن العشرين عن «الثنائية القطبية» الدولية و«تعدد الأقطاب» أو غير ذلك من النظريات لم تعد كافية لفهم ما يجري في العالم المعاصر من أحداث وحروب ونزاعات.
تجدر الإشارة إلى أن «بيير هاسنر» يجد مرجعياته في الآراء التي يطرحها لدى مفكرين ومنظّرين سياسيين وساسة كبار. هكذا ينقل عن هنري كيسنجر شرحه في كتابه «النظام الدولي» أن القوى الكبرى في حربي فيتنام والعراق «لم تأخذ في اعتبارها الوضع الداخلي وتطوّر المجتمعات وإرادة الشعوب». وينقل عن المنظّر اللبرالي الكبير «ريمون آرون» قوله حيال حرب الجزائر «أولئك الذين يعتقدون أن الشعوب تلحق مصالحها وليس عواطفها لم يفهموا أي شيء من القرن العشرين». ويضيف المؤلف «ومن القرن الحادي والعشرين».
وهو يحاول أن يؤكّد عنصراً جديداً يرى أنه يلعب دورا كبيرا على مسرح العلاقات الدولية وفي نشوب النزاعات على مختلف المستويات. هذا في الوقت الذي يشير فيه إلى أن الغرب بالتحديد تسود فيه فكرة ظلّت راسخة لفترة طويلة مفادها أن الحداثة تكمن في «تأطير الانفعالات وقنونتها من قبل الممارسات العقلانية». ذلك باسم سيادة «العقل» أو بـ «الانصياع للمعايير المقبولة عالميا، كونيا» أو من خلــــال «البحث عن تحقيق مصالح محددة».
ويرى المؤلف على ضوء ذلك أن هناك فشلا كبيرا لمجموعة المبادئ والإيديولوجيات التي أُريد باسمها ضبط مسارات العلاقات الدولية وإحلال السلام في العالم. ذلك الفشل يبدو بوضوح، كما يشرح المؤلف، عبر «تكاثر النزاعات والحروب» و«الانبعاث الكبير لمختلف أشكال العنف» وفي المحصلة ينمّ عن ذلك كلّه «المشهد السياسي العالمي المخرّب».
وعنصر آخر يحدده المؤلّف في اللبرالية السائدة في ظل العولمة واقتصاد السوق وما نجم عن ذلك من أجواء المنافسة، بل ومن «الفوضى». والعنصر الثالث المستجد الذي يؤكّد المؤلف حضوره في المشهد العالمي اليوم يتمثّل في «بروز الانتماء العقائدي، الديني، كأحد مكوّنات الهوية». هذه العناصر كلّها يجد فيها المؤلف أسبابا جوهرية في تعقيد حقيقة العالم القائم وصعوبة تحديد «أنماط منسجمة ومستدامة» لضبط آليات عمل العلاقات الدولية.
غياب «الانسجام المطلوب» يجد تعبيره «البليغ» في النزاعات المعاصرة وما تعرفه من عنف مفرط. هذا وفي الوقت الذي «تشكك فيه» العولمة بدور الدول الوطنية وحيث غيّرت الأسلحة الجديدة، وخاصّة منها أسلحة الدمار الشامل، من طبيعة الحروب التي شهدتها الإنسانية في تاريخها السابق، تراجعت تلك الحروب بين الدول إلى الوراء.
في ظل هذا الواقع «الجديد والمعقّد» للعالم بكل ما فيه من «غياب آليات الضبط» ومن «الفوضى» غدا الفرد يعاني من حالة من«الضياع». وأنه يفتقد إلى الثوابت العامّة مما جعل من «الانفعالات والعواطف» بكل مشاربها القومية أو العقائدية «محرّكات فاعلة» يمكنها أن تلعب دورا كبيرا في نشوب النزاعات والحروب.
من هنا لا يتردد المؤلف في الدعوة للشروع في صياغة مشرب جديد للبحث والتفكير بالمسائل الدولية يعطيه توصيف«جيوسياسة ــ جيوبوليتيكية ــ الانفعالات والعواطف». ومن خلال هذا يؤكّد المؤلف ضرورة إجراء مراجعة كاملة وشاملة «لمختلف مقولات»الفلسفة السياسية السائدة حتى اليوم. ذلك أن المعطيات تغيّرت وبالتالي تغيّر منطق تحليل المسائل المتعلّقة بالحرب والسلام في العالم وحيث لم تعد الإرادة الدولية وحدها كافية لبحث هذه المسائل.
تبقى إحدى المسائل الأساسية التي يمكن أن تشكّل،برأي «بيير هاسنر»، عائقا أمام إمكانية الوصول إلى حالة من الانسجام النسبي في العلاقات الدولية بعالم اليوم هي كيفية الوصول إلى نوع من «التحالف» الذي يجمع بين مسألتين قلّ أن اجتمعتا في إطار واحد إلاّ نادرا جدا بسبب «طبيعتهما التناحرية». وهما الجمع بين «حالتي الانفعال والاعتدال».
يشرح المؤلف أن «الانفعال» بعيدا عن الاعتدال قد يدفع إلى الجنوح نحو «التطرّف» وربما يدفع إلى «ارتكاب الجرائم». بالمـــــقابل يبقى من الصعب جدا على «الاعتدال» أن يفرض نفسه بعيدا عن حماس العواطف والانفعالات. ينقل المؤلف بهذا الصدد عن عالم النفس الشهير سيغموند فرويد ما مفاده:
إن البشر يستطيعون أن يتحابّوا فيما بينهم داخل مجموعة، لكن شريطة أن أن يكون هناك آخر يمكــــــنهم أن يواجهوه بمشاعر العداء.
ويخلص المؤلف إلى أن مسؤولية غياب الانسجام في العالم القائم وتعقيده وعدم قدرة النظريات التقليدية على قراءة صحيحة لعالم اليوم يحمّلها المؤلف في تحليلاته لعدد من العوامل التي استجدت على صعيد العلاقات الدولية. ويحدد في مقدّمة تلك العوامل التحوّلات الكبيرة التي انتجتها الثورة الرقمية و«الثورة التكنولوجية» التي ترتب عليها وغيّرت الكثير من المفاهيم السائدة حول آلية عمل العالم.
Prev Post