البروفيسور: أحمد شرف الدين.. شهيد القانون والدولة المدنية
كان الحديث عن التشريع الدستوري والقضاء الإداري في الحوار الوطني يتوج بذكر الدكتور شرف الدين كواحد من الـرواد الأجلاء
كان معلماً جليلاً وسياسياً شجاعاً ومفكراً مستنيراً وأباً مثالياً ووطنياً غيوراً
كان الدكتور شرف الدين يحمل مشروع الدولة المدنية الحديثة ويعي ما تعنيه دستورياً وقانونيا وثقافة
اغتيال شرف الدين مثل صدمة للوطن والدول الراعية للتسوية السياسية وأربك مسار الحوار الوطني
كتب/ محمد محمد إبراهيم
في العام 2012م تعرفت عن قرب على شهيد الفكر المستنير، والتنوير القانوني ورجل الدولة البروفيسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين في إحدى جلسات اللجنة الفنية للتحضير للحوار الوطني..
حينها كانت البلاد تشتعل بلهيب سياسي ساخن واستثنائي في مسار تاريخ اليمن المعاصر، ولفت انتباهي طرحه الواعي وصوته المسموع ليس لوجاهة أو لسطلة أو مال، وإنما لما يملكه من ثراء معرفي وأكاديمي زاخر فرضه في صدارة صُنّاع التشريع الدستوري، والسلام السياسي ومحركي الحوار الوطني باتجاه إخراج اليمن من دوامة الصراعات، وعلى امتداد جلسات الحوار الوطني، كان الحديث عن القانون والتشريع الدستوري والقضاء الإداري، يتوُّج بذكر البروفسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين الذي كان عضو مؤتمر الحوار الوطني عن أنصار الله، ثم عضو لجنة التوفيق عن أنصار الله..
وفي الأسبوع الذي كان من المنتظر فيه أن يتم التوقيع من كل الأطراف على وثيقة الحوار الوطني، وتحديداً في صباح يوم الثلاثاء 20ربيع الأول 1435هـ – 21 يناير 2014م، أصيب المجتمع اليمني بفاجعة، اغتيال الوطن والدولة والحوار، لكن المجاهد البروفيسور أحمد شرف أصاب حلمه الكبير في الشهادة، في سبيل الخير والسلام..
قبل أسبوعين حضرت صباحية خاصة تتعلق بذكرى استشهاد البروفسور أحمد شرف الدين- رحمه الله- على قاعة كلية الشريعة والقانون المسماة باسمه تقديرا لعطائه العلمي والقانوني والإداري الكبير، ولاحظت حضوراً طلابياً وجامعياً وحضوراً سياسياً ونخبوياً كبيراً، وفضاء يكسوه حُزْن عَميق، وتبجيل يليق بقامة علمية وفكرية ووطنية كبيرة، لها حضورها الفكري وصورتها الذهنية الناصعة في ذاكرة النُخَب المستنيرة في المجتمع اليمني الذي يسترجع في هذه الأيام بأسىً بالغ فاجعة الاغتيال المؤسفة والموجعة للوطن، ولقلب كل من عرف البروفيسور (أحمد شرف الدين) أستاذاً ومعلماً وزميلاً أكاديمياً وأباً جديراً برعاية وتكوين أسرة معرفية ناجحة، ولكن الأهم في هذا المقام، هو أن الجميع يدرك أننا نتذكر-قبل تلك الصفات القيمية العليا، والمناقب الحميدة- شهيد الفكر والمشروع المدني والحوار الوطني، والإصرار الثوري الملتزم قيم السلام والتعايش.. وبالتالي من الصعب في هذا المقام أن نلم بعطاء ومكانة شخص مثل البروفيسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين، عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء وأحد جهابذة التشريع الدستوري والقانوني في اليمن والوطن العربي، أو نعطيه حقه من الإنصاف الذي يليق بعظيم جدير بكل قيم الوفاء والاقتداء بمناقبه وأخلاقه النبيلة..
في الصدارة
البروفيسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين، بمثابرته وجهوده العلمية المخلصة وطباعه الشغوف بالتعلم والتحصيل المعرفي جعله دائماً يحرز الصدارة أنّى اتجهت به ركائب المعرفة، ولمن لا يعرف مسار تحصيله العلمي فسيرته الذاتية الناصعة بالعلم والعمل والبذل والعطاء تؤكد أنه ولد عام 1953م في حيس الحديدة، بحكم عمل والده القضائي أو الإداري فيها، وعندما عاد إلى مسقط رأس الآباء والأجداد مدينة “شبام كوكبان” وتلقى تحصيله العلمي الأول في كتاتيبها، ثم واصل الدراسة في صعدة، ومن ثم التعليم المتوسط والثانوي في تعز، بحكم تنقل علم والده..
والملاحظ في مسيرته التحصيلية تصدره على نظرائه على دفعه العلمية، ففي الوقت الذي كان هو أحد طلبة الدفعة الأولى بكليَّة الشريعة والقانون- جامعة صنعاء، حصل على درجة ليسانس شريعة وقانون، محرزاً الترتيب الأول في دفعته عام 1978م.. ليحصل بعدها مباشرة على منحة دراسية إذ كان على رأس أول دفعة ابتعاث يمنية، إلى جمهورية مصر العربية في مجال القانون والحقوق، وفي أقصر مدة قضاها طالب يمني أو عربي لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، تمكن الطالب النجيب أحمد بن شرف الدين، بهمة عالية من نيل درجتي الماجستير والدكتوراة في الحقوق، متصدراً قائمة الأوائل، في زملاء دفعته بكلية الحقوق، جامعة عين شمس (1980-1983م).. وكان أول أكاديمي يمني يحصل على الدكتوراه في الحقوق، وبعدها شغل أستاذاً مساعداً، ثم أستاذاً مشاركاً كلية الشريعة والقانون، جامعة صنعاء، اليمن (1984-1989م). بل كان أول أكاديمي يمني يشغل منصب عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء.. وعمل أستاذا للقانون العام بكلية الشريعة جامعة صنعاء منذ تعيينه بجامعة صنعاء وحتى استشهاده.
الأكاديمي المجدد
أكاديمياً.. لم يكن البروفيسور أحمد بن شرف الدين هو ذلك الأكاديمي المقيد بنصوص نظرية في مسار قانوني تشريعي، بل كان هو العقل الحر المجدد في الفكر المتسق بمعطيات ومستجدات إصلاح المجتمع، والعقل الشجون في الاستزادة من ينابيع المعرفة والتعلُّم والمثابر في البحث، ما جعله يكوِّن في ذاكرته الفولاذية المكتنزة مرجعية علمية ومعرفية حاضرة على مُـختلف جبهات التحصيل المعرفي، الجامعي والدراسات العليا، ودراسات القانون العسكري والمعرفة الشرطوية، بل صار أبرز مراجع التشريع الدستوري يمنياً وعربياً، ولم يحتكر ذلك الثراء لذاته، بل صار نبعاً معرفياً غزيراً، توّج ثروته المعرفية والقانونية، بالإمساك بزمام ومفاصل الإدارة ومعطيات مهنة القضاء وأساسات رقي قيمها ونبل حاملها، فقد كان يوزع عطاءه بإدارة دقيقة، إذ كان محاضرا لطلاب الدرجة الجامعية الأولى، والدراسات العليا أيضاً في كل من جامعة صنعاء، وأكاديمية الشرطة، وجامعة الحديدة، والجامعة اليمنية، وجامعة العلوم والتكنولوجيا، وجامعة الأحقاف، والمعهد العالي للقضاء، والمعهد الوطني للعلوم الإدارية، وأشرف على العديد من البحوث والرسائل العلمية، وكان له حضور في العديد من المؤتمرات والندوات واللقاءات والورش العلمية محليًّا ودوليًّا.
ولم يكتف البروفسور أحمد شرف الدين بهذا العطاء التنويري والمعرفي، بل أسهم في تأسيس مرجعية تشريعية وقانونية مكتبية، من خلال تأليفه العلمي والمعرفي، فقد ألف ونشر العديد من المراجع العلمية الزاخرة، في مختلف المجالات التي من أهمها: الوظيفة العامة، القانون الإداري، القانون الدستوري، القضاء الإداري، الإدارة المحلية، والتشريع الضريبي.. كما استطاع تقديم العديد من الأبحاث العلمية في تخصص القانون العام ودراسات المرأة، وبما عكس بجلاء ثراء موقعه الأكاديمي وخبراته العلمية المتراكمة، إلى جانب ذلك كان رحمه الله عضو في العديد من المجالس واللجان العلمية المتخصصة داخل جامعة صنعاء وخارجها.
المناضل السياسي والإداري
سياسياً وإدارياً.. كان الشهيد البروفيسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين، أحد الرواد الفاعلين في مضمار العمل السياسي ومقتضياته الإدارية منذ وقت مبكر من دولة اليمن الموحد، فقد كان أحد أبرز مؤسسي حزب الحق، وشغل منصب الأمين العام المساعد لحزب الحق، في أول تحول يمني ديمقراطي باتجاه التعددية السياسية، وكان عضو اللجنة العليا للانتخابات والاستفتاء عام 1992م، عن حزب الحق.
وعلى صعيد العمل المدني وترسيخ قيم العمل المؤسسي لبناء منظمات المجتمع المدني، فقد سعى مدنياً وقانونياً لتأسيس مؤسسة أهل البيت للرعاية الاجتماعية 1993م، وكان له موقف المؤيد والداعم لمشروع دستور الوحدة اليمنية المنطلق من قاعدة الديمقراطية والتعددية السياسية والقبول بالآخر في الثروة والسلطة والحكم.. وكان أول من طرح ونادى بفكرة الانتخاب بواسطة نظام القائمة النسبية في العام 1996م..
وانطلاقاً من ثرائه المعرفي والفكري والعلمي كان متميزاً عن أقرانه السياسيين إذ كان لديه عقلية سياسية ناضجة، تؤمن بقيم العمل السياسي الناجح الذي لا يتخذ الحرب والعمل العسكري وسيلة وأداة لتصفية الخصوم السياسيين، وإيمانا منه بقيم الحوار في التعايش والسلام، كان للشهيد البروفسور أحمد شرف الدين مواقفه الرافضة للاقتتال، وسفك الدماء، حيث كان له موقف رافض لحرب صيف 1994م، إذ لا يعتبر الحرب حلاً نهائياً للمعضلات التي تكتنف مسيرة الوحدة الوطنية كمنجز عظيم، كما تحمّل التبعات السياسية لذلك الموقف الشجاع.. وتباعاً لذلك كان له موقف رافض للتعديلات الدستورية التي جرت عام 1994م، وفي حروب السلطة الستة على صعدة- التي اعتذرت عنها الدولة في مؤتمر الحوار الوطني- لم يكن البروفسور بن شرف الدين قابلا بالحرب، كوسيلة لحل المعضلة القائمة بين أي مواطن يمني وبين الدولة.. وانطلاقاً من إصراره على هذا الموقف المدني الذي أبداه قبل بداية الحرب الأولى، قدّم استقالته من عمادة كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء.
وعلى الصعيد النضالي أيضاً كان له موقف المؤيد والداعم لمطالب الشباب الوطنية والمدنية في ربيع 2011م، لكنه كان مغلباً للغة الحوار والسلمية على لغة الفوضى والدمار، إذ كان له اجتهاده الدائم ومواقفه المدنية المسالمة والمتكئة على وجهة نظر أكاديمي حصيف لا يؤمن بالإقصاء والعنف والتمييز، مقدماً أروع المواقف النبيلة على طريق الحوار الوطني الشامل، فقد كان عضو اللجنة الفنية للتحضير للحوار الوطني عام 2012م، وعضو فريق بناء الدولة بمؤتمر الحوار عن مكون أنصار الله 2013م، وممثلهم في لجنة التوفيق، ثم لجنة ضمانات مخرجات مؤتمر الحوار الوطني2014 م.. وسعى جاهدا إلى تحقيق الدولة المدنية الحديثة ودولة المواطنة المتساوية، بل كانت له أطروحات شجاعة، ملبية لطموحات الشعب اليمني، لكنها كانت صادمة للعقلية السياسية والتسلطية المتحجرة التي تعيشها قوى التطرف والغلو والإقصاء.
ذهول محلي ودولي
بحضور الدول الراعية للتسوية السياسية، والمبعوث الأممي والمنظمات الدولية المدنية والإنسانية، كانت قاعة موفنبيك صبيحة يوم الثلاثاء تغص بأطراف أطول حوار سياسي يشهده تاريخ اليمن، كان الجميع منتظرين يوماً مشهوداً وحافل بمراسم توقيع جميع الأطراف على الوثيقة النهائية لمخرجات الحوار الوطني، لكن الفرحة لم تتم فقد وصل النبأ الصاعق، بما ارتكبته أيادي الغدر والخيانة من اغتيال أبرز كوادر ومحركي الحوار الوطن البروفسور أحمد عبدالرحمن شرف الدين الذي كان الجميع ينتظره لتكتمل طاولة الأطراف السياسية، غير أن ذلك النبأ المشئوم أربك مسار الحوار الوطني.
وعلا صراخ المنظمات وممثلي البعثات الدولية والأممية والمنظمات المدنية اليمنية، استهجاناً لهذا العمل اللاأخلاقي، وبدأت المسيرات الشعبية المنددة بالحادثة.. فقد مثل اغتيال البروفيسور أحمد بن عبدالرحمن شرف الدين صدمة للوطن بأسره بصفة عامة وفاجعة حقيقية لزملائه وطُلابه وكل من عرفه، تاركاً الجميع في الداخل والخارج في ذهول وخيبة أمل من العيار الثقيل.
طموح الشهادة
وفي الوقت الذي كانت فيه الأطراف السياسية والقوى المدنية والمنظمات الدولية تعيش صدمة اغتياله الموجعة، كانت أسرة الشهيد تستقبل العزاء والمواساة ولكن برؤوس مرفوعة، وقلوب مطمئنة مؤمنة بأن ما آل إليه مصير راعيهم ومربيهم ومعلمهم هي خاتمة مشرفة، وأمنية كان يعيش أحلامها وطموحها، بأن تكون خاتمة نضاله هي الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق ورفع راية السلام والتعايش والمدنية تحت مظلة دولة المواطنة المتساوية.. وقد ظهر هذا الاعتزاز في كلمة وزير الدولة عضو مجلس الوزراء السابق حسن أحمد عبدالرحمن شرف الدين، التي ألقاها في فعالية الذكرى الثانية لاغتيال البروفسور شرف الدين حيث قال: إننا نقفُ اليومَ مع حلول الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد البروفيسور أحمد عبد الرحمن شرف الدين لنستحضر رحيل عظيمٍ وخاتمة مشرّفة حظي بها والدُنا، راضين بما كتبه الله تعالى له من موقف سديد، ومولد جديد، وحياة أعز وأكرم، ومرتبة أسمى وأعظم، رفعه اللهُ فيها إليه شهيداً مع الشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
وأضاف حسن شرف الدين: إن والدنا حي يرزق، وهو خالدٌ بيننا، بما تركه لنا من سمعةٍ مشرفةٍ عابقةٍ بطيب الذكر، وسيرةٍ عطرةٍ عامرةٍ بنيّرِ الفكر، والبصماتِ المشهودِ لها بالشرفِ والعزة، سواءً على الصعيدِ العام، أو الصعيد الخاص، موازناً بين مسؤولياتِه الدينيةِ والعلميةِ والجهاديةِ والسياسيةِ والوطنية، وبين مسئولياتهِ الانسانيةِ والاجتماعيةِ وواجباتِه الأسريةِ والعائليةِ، فعلى صعيدِ الأسرة فقد كان لها نِعمَ الراعي الرحيم، والصديقِ الصدوق، والمربي النموذجي، راقياً في تعاملِه مع والدتِنا الصابرةِ، شريكةِ حياتِه وجهادِه، مُحسناً تربيتَنا دينياً وخلقياً، مزودِاً لنا بالمعرفةِ والتوجيهِ الهادئِ والسلوكِ الحَسن، مذكراً إيانا دائماً بأن هذه الدنيا ليست سوى دارِ عبور، ورحلةٍ إلى اللهِ تعالى، وأن كلَّ ما لدى الإنسانِ في هذه الحياةِ ـ من نَفسٍ ومال ـ يُفترض بالمؤمنين إنفاقَه في سبيلِ الوصولِ إلى الله.
وأردف نجل الشهيد قائلاً: وكذلك على صعيد علاقاته بالناس والمجتمع كان شهيد الأمةِ قد جسّدَ طوالَ حياتِه الأسوةَ الحسنةَ في أقوالِه وأفعالِه، فكان الصدوقَ المُصدَّق، المتواضعَ الكريم، البشوشَ الودود، كان يرحمُ الضعفاءَ، ويواسي المساكين، ويعودُ المرضى، ويقومُ بكاملِ مسؤولياتِه تجاهَ أفرادِ مجتمعِه وأصدقائِه وجميعِ من يتعاملُ معه، وهو الصائمُ نهارَه، القائمُ ليلَه، الملتزمُ بالقرآنِ في كلِ سيرتِه، الباذلُ حياتَه في سبيلِ خدمةِ الناسِ والأمةِ لرفعِ الغشاوةِ عنها، مستعيناً بعلاقتِه الربانيةِ مع خالقِه، فسلام الله عليهم.
مهابة وتقدير
أخيراً.. لا يمكن لهذا المقام أيضاً أن يتسع للشهادات النخبوية اليمنية والعربية والدولية والأممية التي قيلت في حق الشهيد البروفيسور أحمد عبد الرحمن شرف الدين – رحمه الله، غير أن من حضر إحدى فعاليات الاحتجاجات في الموفنبيك أو فعاليات التأبين وإحياء الذكرى الأولى والثانية سيعرف سعة الدائرة القيمية من المهابة والتقدير التي يحظى بامتلاكها الدكتور أحمد شرف الدين في أوساط النخب اليمنية والعربية والدولية وحتى الأممية، وكذلك الأوساط الجامعية من طلاب وكوادر القانون والحقوق، وكذلك الأوسط الشعبية من عامة الناس..