علي بن عبدالله الضمبري –
من النظرات النبوية الثاقبة الصائبة – وكلها صائب ثاقب – أن يكون أول عمل يؤسس له النبي القائد المعلم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو (بناء المسجد).. فبعد ترسيخ العقيدة في العقول وتعميق الإيمان في القلوب وتزكية التقوى في النفوس.. لا بد من وجود (مركز) لتقوية العقيدة وتربية القلوب وتنمية النفوس وتأسيس كل ذلك (على تقوى من الله ورضوان)..
(المسجد) يعلمنا معنى السجود لأوامر الله في مجالات الحياة ليساعدنا على تعميق تطبيق القيم العقدية والشيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية..
و(الجامع) يجمع المسلمين برباط التوحيد وتوحيد الترابط وتماسك المجتمع واجتماع الأمة وجماعية المشاركة وصلاة الجماعة ويؤصل – في العقول والنفوس والقلوب – (كلمة التوحيد) لتتجسد وتتجلى في (توحيد الكلمة)..
وليس المسجد للصلاة فحسب وإن كانت هي الأساس والنبراس. إذ تعلمنا وحدة الإحساس في ألفظاها وأدعيتها وأذكارها ابتداء بـ(إياك نعبد وإياك نستعين – اهدنا الصراط المستقيم) وليس انتهاء بـ(السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).. لأنها تبقى تمد جسور التواصل حتى يعمِ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) في المسجد والسوق والمدرسة والحقل والمصنع والبيت والشارع. ويصل السلام والرحمة والبركة في عملنا وعلمنا واقتصادنا وسياستنا وقولنا وفعلنا وعلاقاتنا كلها مع أهلينا وجيراننا وحتى مع غير المسلمين.. لأن الإيمان (حب) إذ (لا يؤمن أحدكم حتى يحب).. إذن يغدو المسجد واحة الصلاة وبيت الأمان وحصن التوحيد وحضن المحبة ومدرسة الحياة وجامعة الجماعة وقاعة التعليم وساحة اللقاء ومجلس الشورى ونادي الفكر لأنه (جامع) لكل خيرات الدنيا والآخرة.. أو ليس كل خطوة إليه ترفعنا درجة وتحط عنا خطيئة وتزيدنا حسنة وذلك ينفعنا لتعزيز كل عمل صالح ويدفعنا لكل خير عاجل أو آجل..
مقومات تفعيل دور المسجد:.
قبل الولوج في هذا الموضوع ينبغي أن نعرف أن هناك أسباباٍ أعاقت المسجد عن إبراز دوره التوجيهي المعنوي التربوي والتعبوي ولعل من هذه الأسباب ما يلي :
(1) شيوع الفكر الخلافي والخرافي في آنُ معاٍ فالفكر الخلافي بدد جهود الأمة ضيع إمكانياتها العقلية والذهنية ومقدراتها الفكرية حول قضايا وموضوعات لم تنفع المسلمين قديماٍ أو حديثاٍ فبدأ الخلاف في مسألة التفضيل بين (علي) و(معاوية) ثم بروز الفرق المتعددة بعد الجمل وصفين (خوارج – شيعة – مرجئة – جهمية) وغيرهم.. ثم برز (المعتزلة) الذين أثاروا قضية (خلق القرآن).
وهكذا اتسعت شقة الخلاف بين المسلمين وانتشرت انتشار النار في الهشيم وخصوصاٍ بعد ظهور المذاهب الأربعة (مالكي – شافعي – جنبلي – حنفي) لدرجة أنه كان حول الكعبة أربعة محاريب بعدد المذاهب.
أما التفكير الخرافي فهو تفكير هروبي انسحابي انعزالي منغلق على ذاته منكفئ على جماعته أغلق موانئه وشواطئه عن استقبال كل وافد جديد وكل رافد مفيد على أساس أنه (ما ترك الأول للآخر شيئاٍ) وأنه (ليس في الإمكان أفضل مما كان).. وقد انتشر التفكير الخرافي لدى كل الجماعات ولا أستثني منها أحداٍ ولكل جماعة تسويغ لأفكارها وتسويق لآرائها تنطلي على أتباعها وينخدع بها دهماؤها.
(2) مجيء مرحلة الاستعمار الغربي (الأصح: الاستكبار) الذي محا بكل إمكاناته وأساليبه الخبيثة دور المسجد وحوله إلى (كنيسة) إسلامية تقول (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر).. وأعني بذلك أن المسجد تحول إلى مؤسسة منكفئة على ذاتها موضوعاتها مكررة معادة مملة حتى شاع المثل (الجمعة الجمعة.. الخطبة الخبطة).. وانتشرت كتب ابن نباته المسجوعة في معظم بلدان المسلمين لدرجة أن الخطباء في باكستان وغرب إفريقيا يكررون الدعاء بأن يحفظ الله (خاقان المسلمين سلطان البحرين) الذي لم يحكمهم ولم يعرفوه..
(3) سيطرة التحزب المتعصب: مع انقضاض الشعوب على أنظمة الجبر وحكومات الجور و بروز أنظمة (وطنية ثورية) وظهور الأفكار المختلفة: قومية – محلية – ماركسية.
اتخذ كل حزب لنفسه منابر ومساجد تعكس رؤاه الفكرية والإيديولوجية لدرجة أن القوميين يترحمون على (ميشيل عفلق وجورج حبش) وهما مسيحيان.. وحتى إن الماركسيين صاروا يروجون للفكر الاشتراكي الشيوعي من خلال استغلال بعض المشاهد في التاريخ الإسلامي حتى قالوا (أبو ذر هو رائد الاشتراكية) من خلال حديث (الناس شركاء في ثلاثة….) رغم أنهم يقولون (الدين أفيون الشعوب).
ومع سقوط أصنام الشيوعية وانهيار جدار برلين ظهرت التعددية السياسية والتنوع الحزبي وحرية الصحافة.. وتلك من مبشرات الديمقراطية… فاتسعت المشاركة السياسية حتى غدا للجماعات الإسلامية أحزابها وصحفها وبرامجها الانتخابية ومواقفها السياسية ورؤاها الفكرية مما عمق فجوة الخلاف بين التيارات الإسلامية نفسها وتشرذمت الجماعات الإسلامية إلى (حركيين) و(قرآنيين) بالإضافة إلى الإرث التاريخي في النزاع بين (السنة) و(الشيعة) و(العقلانيين) و(الأثريين) و(المقلدين) و(المجتهدين).
هذا الخلاف فصم عرى الائتلاف بين المسلمين وقوض دعائم التواصل والتناصح والتناصر وإذا بالمقولة القرآنية تتحقق عبر (كل حزب بما لديهم فرحون) مما أفقد المسجد دوره وتأثيره بل حتى مصداقيته إذ صار كل تيار وكل جماعة وكل حزب يرى نفسه (الفرقة الناجية والطائفة المنصورة) وكل من عداه أو عاداه فهو من فرق الضلالة والبدعة والفسوق…. بل الكفر والخروج من الملة – عياذاٍ بالله – .
وقد لعب أعداء الإسلام بهذه الورقة وعزفوا على ذلك الوتر الحساس وروجوا للطائفية وأحيوا الخلافات القديمة كما حصل في العراق وأفغانستان وما بدأ يتسرب في اليمن.
(4) فجوة الجفوة: حصلت فجوة عميقة واتسعت الهوة السحيقة بين (المثال) و(الواقع) و(التاريخي) و(الراهن) و(الديني) و(السياسي) و(الاقتصادي) و(الاعتقادي).. إذ كيف يتحدث الخطيب عن موضوع (أهمية العمامة) في ظل غياب العدل والأمانة¿! أو يتناول قضية (إطلاق اللحية) في مجتمع يحتاج إلى إطلاق القدرات والخبرات والكفاءات.. بل إطلاق سراح المسجونين المظلومين.. وأعود فأستدرك وأقول: لست ضد الحديث عن (العمامة) و(السواك) و(طول الثوب) فتلك مسائل ثابتة صريحة ولكن التركيز عليها والدوران حولها وإغفال قضايا حيوية ومصيرية كبرى هو المشكلة التي تْعمق الجفوة ولا تردم الفجوة إذ ترى بعضهم يتحدث (هل القبة الخضراء على القبر النبوي المحمدي سنة أم بدعة)¿! ولا يتحدث ببنت شفة عن تحرير (قبة الصخرة) والمسجد الأقصى بحجة أن هؤلاء الفلسطينيين (يلبسون البنطلونات) و(يدخنون) ونساؤهم (كاشفات الوجوه) فهم يستحقون ما جرى لهم جزاء وفاقاٍ.. بل أفتى بعضهم بأن (فلسطين) صارت (دار كفر) يجب الخروج منها وتركها لليهود!!.
لعل تلك النقاط الخمس التي تناولناها آنفا تحدثت عن الخطوط العريضة والأسباب التي عوقت ومنعت تفعيل دور المسجد حتى صار الناس يذهبون للصلاة بقلوب متجافية غير متصافية ونفوس متنافرة وأرواح متباعدة متباغضة وليتهم علموا أن ذلك يحبط العمل فيقال لهم (انظروهم حتى يصطلحوا)..
عوامل تفعيل دور المسجد
بالنظر إلى ما سقناه آنفا من الحديث حول (معوقات تفعيل دور المسجد) يتجلى لنا أن ما يضاد وما يعارض النقاط الخمس السابقة تمثل أهم عوامل تفعيل دور المسجد ولكي تتضح الصورة ويتجلى المشهد نحاول استجلاء أهم العوامل:
(1) التثقيف العصري: أي أن يكون لدى الخطيب أو الإمام معرفة – ولو عامة- بأهم قضايا العصر الراهن ودراية بما يعتمل في مجتمعه من أحداث وما يستجد من آراء وأفكار وهذا الحس يكتسب من خلال (التثقيف) الواعي المنفتح الذي يطلع على كل جديد ومفيد لكي يثري خطابه ويطور أسلوبه ويجدد تناوله..
الملكة الفقهية والذهنية الشرعية أمران هامان وأساسيان لكن لا بد أن ترفد تلك الملكة بمسائل العصر وقضايا المجتمع وأحداث العالم حتى لا يقول خطيب الجمعة (إن فلاناٍ العلماني الملحد عنده مرض الماجستير)!!
(2) البحث عن القواسم المشتركة: وهذه مقولة سمعتها من العلامة/ أبي بكر المشهور الذي يرى أن الداعية الحصيف هو الذي يجمع ولا يفرق يقرب ولا يمزق يحرص على التقارب والائتلاف وينبذ التعصب والاختلاف… من خلال حرصه على (القواسم المشتركة) التي تجمع الأمة على (كلمة سواء) فيبحث عن كل (المشتركات) بين كل الفئات والجماعات وينبذ الخلاف ولا يستدعي القضايا الماضوية التي تشق الصف أو تمزق الجماعة.. ولو بحث الدعاة والعلماء في كل طائفة أو جماعة عن المشترك العقدي والفكري والتربوي بينهم لما وجدوا فيه اختلافاٍ كثيراٍ ولكن (بطر الحق وغمط الناس) هو السمة السائدة في تناولاتنا ومقولاتنا ومحاضراتنا على طريقة (ابتعوا سبيلنا ولنعمل خطاياكم) وهذه هي عين (الأمعية) الذيلية الذليلة التي حذر منها قائدنا ومعلمنا ونبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) الحياد والموضوعية: وهما تعادلان خصلتين يحبها الله (الحلم والأناة) كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لأشج عبدالقيس) فالحلم والصبر والتأني والتمهل وعدم التهور والتسرع تدفع حتماٍ إلى اكتساب موهبة (الحياد) المنصف والمنطقي والعقلاني الذي يعطي الداعية في مسجده وتعامله صفة (العدل) لأنه ينطلق من الآية (وإذا قلتم فاعدلوا)..
ما أشد حاجتنا وما أمس حالتنا في افتقاد الحياد الموضوعي المتعقل المتزن الذي لا يبخس الناس أشياءهم.
(4) التحرر من التبعية: للأسف أضحت المساجد مثل (أندية الرياضة) لها أعضاؤها ومشجعوها وروادها.. فلكل جماعة أو طائفة مسجد خاص بها.. وهنا يجب التشديد على أن تكون المساجد بمعزل عن التبعية السياسية والأيديولوجية لأي تيار يستمد سلطته من الدولة القائمة أو الأحزاب.. ولست هنا أدعو إلى (تأميم المساجد) كما فعل الاشتراكيون مع (وسائل الإنتاج)!! كلا.. بل أتمنى أن يتجسد في المسجد هذا التحرر ليكون معبراٍ عن كل فئات الشعب وقواه واتجاهاته دونما تعصب ولا تحزب ولا تبعية ولا إمعية بل ينطلق من قول الحق جل وعلا (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا).
(5) المصداقية: حينما تتجلى المصداقية في مؤسسة المسجد تكتسب احتراماٍ وتحظى بتقدير وتجد أنصاراٍ يعملون على تعزيز قيم الصدق الذي نفتقر إليه ونفتقده لدى بعض خطبائنا الذين يروجون أكاذيب الشائعات وأباطيل الأراجيف لكي يسقط من مكان خصمه وعدوه (إن كان يجوز لنا أن نطلق لفظ الخصومة والعداوة بين المسلمين)..
بعضهم يلتقط (الكذبة) من خلا استراق السمع فيحولها إلى موضوع للتندر والسخرية متناسياٍ (فتبينوا) متاجهلاٍ (لا تقف ما ليس لك به علم).. وهذا هو عمل الجن الذي يسترقون السمع فيضخمون الأباطيل ويفخمون المهازيل ولذلك تجد (شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراٍ) فيفقدون المصداقية ويتحاشون الموضوعية ويسقطون في مستنقع الظن الذي لا يغني من الحق شيئاٍ وإذا (إبليس) قد صدق عليهم ظنه فاتبعوه.
(6) تعزيز الحوار: الحوار الهادئ الهادف قيمة نفتقد إليها في مساجدنا رغم أننا تعلمنا منذ السورة الأولى في القرآن أن الله (رب العالمين) أجمعين
- يحاور في بعض سور القرآن- إبليس اللعين ويتحاور مع الملائكة في لغة هادئة وأسلوب متزن.. لدرجة أن الشيطان الذي يتوعد ويقسم يرد عليه الله بلغة قوية وحاسمة وحازمة (الحق والحق أقول إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وهو سبحانه – جل في علاه – قادر على أن يمسخه أو يمسحه من الوجود.
مشكلتنا أننا حولنا الحوار إلى (مناظرات) بأساليب سقيمة عقيمة لا تهدف إلى إحقاق الحق ونصرة الملة بقدر ما تعمل على تعزيز مكانة المتبوع شيخاٍ كان أو حزباٍ أو جماعة.. وهذا يتأتى من (سيطرة التحزب المتعصب) الذي يقول بلسان حاله (ما رأيكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
(7) كونوا ربانيين: هكذا وبإيجاز مؤثر ومعبر ينصحنا القرآن أي لنتعامل مع غيرنا كما يتعامل ربنا معنا.. أليس هو الذي يرحم ويقبل ويتجاوز ويرحم برحمته التي وسعت كل شيء¿¿¿!.
نحن بحاجة إلى تفعيل أسماء الله الحسنى في سلوكياتنا كما دعا إلى ذلك الداعية التركي الرائع (بديع الزمان سعيد النورسي) الذي دعا (طلاب رسائل النور) إلى أن يكونوا رحماء وحلماء وحكماء وعظماء تأسياٍ بأسماء الله (الرحيم- الحليم – الحكيم – العظيم)..
إن الفروق الفردية بين الناس هي التي تؤدي إلى تعددية الآراء واختلاف وجهات النظر…. وهذا لا يفسد للود بين المسلمين علاقة.. بل يجب أن يحمل كل مسلم وكل مسلمة أخوته على محمل حسن الظن والأناة والحلúم والقبول بالآخر.. دون إقصاء أو إلغاء أو استحواذ لنعجة واحدة من قبل مالك تسع وتسعين نعجة.. بل يفرغ من فكره إلى فكر أخيه كما يفرغ من دلوه إلى دلو أخيه -بحسب الحديث- .
(الربانية) سلوك لم يقدر عليه الا ثلة من الأولين ولن يقدر عليه إلا قليل من الآخرين.. فلنحرص عليه ولنتأسِ بنبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل تصرفاتنا ومعاملاتنا وأفكارنا كما نحرص أن نقلده – بل نتبعه – في ملابسنا وأكلنا وأذكارنا.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
❊ مدرس بكلية التربية – جامعة عدن