عرض/ خليل المعلمي
الماء هو مصدر الحياة على وجه الأرض، به تزهو وتخضر وتشرق، وبواسطته تصير الطبيعة في أوج عطائها وبذخها وخصبها، فتغدق على الإنسان والحيوان والطير كل ما ينعم به ويحيا سعيداً، إنه وسيلة للسعادة والنور والإشراق والفرح، ومادة حيوية لممارسة كل أنواع النشاط البشري، فهو المنقذ من الجفاف والعطش والضمأ والفقر والفاقة والحاجة، وهو الوسيلة للتقرب إلى الله والتطهر من الدرن والوسخ والنجاسة، ولولاه لما كان الإنسان في أبهى حلة، فتظهر على محياه السعادة والحبور.
يقدم لنا الباحث عزيز العرباوي دراسة سيميائية عن رمزية الماء في التراث الشعري العربي، وتم نشرها ضمن إصدارات مجلة الرافد العام الماضي، وتهدف الدراسة إلى إبراز أهمية الماء ورمزيته ودلالاته المتعددة في التراث الشعري العربي منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، ويؤكد في الدراسة أن الماء في الشعر العربي قد شكل العديد من الدلالات المختلفة والرموز المتعددة من خلال تجلياته الفضائية والمادية والثقافية، ومن خلال القناعات الفكرية عند كل شاعر على حدة.
ولأهمية المياه في الحياة البشرية فقد دفعت الشعراء العرب منذ القديم وإلى أيامنا هذه إلى استحضاره في شعرهم والاهتمام به بطرق مختلفة ورؤى أدبية وشعرية وفنية متعددة مكنتهم من جعله عنصراً حيوياً وموضوعاً شيقاً في شعرهم فتفوقوا من حيث استخدامه في بعض الأغراض الشعرية (المدح، الرثاء، الهجاء، الحب والغزل، التصوف، المقاومة، الحزن، المعاناة)، ومن حيث اعتباره مادة أساسية في التأمل الشعري والبوح الفني.
تناول المؤلف في الفصل الأول موضوع السيميائيات وتحديد مفهومها وموضوعها واتجاهاتها المختلفة مع الاهتمام بمفهوم الدلالة ومعناها في إطار التراث العربي، مستحضراً العديد من الآراء والتعاريف التي تناولت هذا المفهوم في تراثنا الأدبي والفكري، وكان لابد عند الاهتمام بالسيميائيات أن يتم تحديد علاقتها بالتراث العربي انطلاقاً من مسألة تعريف الدلالة عند العرب القدامى بحيث تعتبر العلامة موضوعاً للسيميائيات الحديثة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب يقدم المؤلف الماء كعنصر حيوي ضروري للحياة ولجميع الكائنات الحية في الكون حيث حدد مفهومه اللغوي والاصطلاحي ورمزيته في الثقافة الشعبية والأسطورة البشرية عموماً، وفي الدين الإسلامي خاصة من خلال أهميته للإنسان وقدسيته في ارتباطه بالخلق وبالعرش الإلهي.
وأثار المؤلف خلال سياق دراسته موضوع رمزية الماء ودلالته العميقة في مختلف العصور ففي التراث الشعري الجاهلي تم استحضاره في الحب والغزل والبكاء على الاطلال بعد مغادرة الحبيبة للديار التي تعرضت للجفاف وشح موارد المياه، وفي الشعر الإسلامي عند الحطيئة، ويمثل الماء عند جميل بثينة في العصر الأموي أنه ذلك العنصر الحيوي والمنعش لعاطفة الحب ومشاعر العشق والرغبة في اللقاء والود والوصال مع الحبيب.
أما في الشعر العباسي فلم يخرج عند بشار بن برد عن إطاره الدلالي والرمزي في شعر المدح والغزل، فكان الوسيلة الناجحة في تحقيق أهداف الشاعر وغاياته من استحضاره في مدح الشخصيات الكبرى في الدولة أو في استمالة الأنثى/ المرأة والتقرب إليها، حيث قال:
ولاحت وماء الأزرقين عشيةً
أناقيعُ تعفوها نسُورٌ وأذوبُ
صفت لي يد الفيّاضِ روح بن حاتم
فتلك يد كالماء تصفو وتعذُبُ
وفي الشعر الأندلسي يختلف المعتمد بن عباد عن الآخرين في رؤيته لأهمية الماء خاصة بعد أسره وسجنه فالماء كان يمثل له معنى الحاجة والحزن والخوف على مصيره وعلى مصير أولاده وفضاءاته تمثل له أمكنة بعيدة الماثل ومستحيلة الزيارة بعد النعيم الذي عاشه أثناء حكمه في قصوره وبساتينه حيث الماء الزلال والعذب، ومما قال:
فما ماؤها إلاّ بُكاءٌ عليهم
يفيض على الأكباد منه يحورُ
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلةً
أمامي وخلفي روضة وغديرُ
ويرتبط الماء بالشعر الصوفي عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، فيصبح دلالة عن الحب الإلهي وتعبيراً عميقاً عن الشوق والعشق وعن كل ما هو روحاني وصوفي، فالماء تعبير عن الإغراق في ملكوت الله وأسرار كونه.
وفي الشعر الحديث فإن الماء عند محمود درويش يخرج عن معناه السطحي ويدخل في نطاق المعنى العميق في إطاره الثقافي والفكري والسياسي العام ويبقى الماء في تجليه المادي ذلك العنصر الرمزي في الحياة عند الشاعر في تفاعله مع معاناة شعبه وأمته.
وحاول المؤلف في ذلك إبراز المعنى العميق والموغل في الرمزية والإيحائية للماء، فيجد أن الماء قد استعمل في الكثير من الأشعار العربية على مر العصور المذكورة استعمالاً مخالفاً للمعهود عليه والمألوف في الثقافة الإسلامية، فقد تم استحضاره في التشبيه وفي المقارنة وفي المدح والرثاء والهجاء والغزل والحزن والمعاناة والغرق والضياع والتشرذم والتقدم والتخلف والمأساة والسخرية وغيرها من القضايا التي كان الماء فيها ممثلاً لمشاعر وأحاسيس ومواقف وأفكار الشاعر.
كما أثار أيضاً دلالة الماء العميقة ورمزيته في التشكل الشعري العربي في بعض القضايا الفنية الملتحمة مع موضوع الشعر، وتوقف على البناء الشعري وتنويعاته الموضوعية المرتبطة بموضوع الماء ودلالاته المتعددة سواء في ارتباطه بالطبيعة أم بالحياة أم بالمنظور الثقافي والديني أم بالموروث الشعبي.