الجامعــة العربيـــة
أحمد يحيى الديلمي
في محاضرة له ألقاها في عقد الثمانينات من القرن الماضي بالمعهد الدبلوماسي الواقع في النمسا قال الدكتور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وهو يعلق على قيام تجمعات عربية منحدرة من الجامعة العربية ومدى قدرتها على تفتيت هذا الكيان قال : التجمع الخليجي هو الذي يمكن أن يستمر ويعول عليه بأن يلعب دوراً في خلخلة النزعة القومية التي كثيرا ما عانت منها الدول المنطوية في هذا الكيان لأن القوى الثورية والأحزاب اليسارية بعد أن سيطرت على النظام في عدد من الدول العربية ومنها مصر بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وجهت سهامها صوب هذه الكيانات الخليجية بهدف إسقاطها وأضاف كيسنجر من أهم مؤهلات دول الخليج التجانس المذهبي والتماثل الاجتماعي أخيراً وهو الأهم الوفرة المالية وبالتالي فإن بإمكانها أن تفتت هذا الكيان وتضعف دوره وتحوله إلى مجرد ظاهرة صوتية .
المتابع لأوضاع الجامعة العربية وحالة الانكسار التي تعاني منها والتبعية التي تتحكم فيها يعرف أهمية المؤشرات التي وردت على لسان كيسنجر ومن ثم تتضح اليد الخفية التي كانت مصدر فكرة قيام الكيان الخليجي وهي التي حددت مسار عمله والغايات المرجوة منه وفي مقدمتها العمل على حرف بوصلة اهتمام المواطن العربي والتأثير على حضور القضية الفلسطينية في ذهنيته .
فالقضية الفلسطينية منذ نشأت الجامعة كانت المحور والأساس الذي ارتسم في ذهن المواطن العربي بما في ذلك القادة وكانت أصوات القوى الثورية تلعلع في أروقة الجامعة فتسقط كل رغبات هذه الدول التي لا تمتلك من العروبة إلا الجنسية واللسان فيما يبدو أن دول الخليج أتقنت الدور الموكل إليها والمهام المنوطة بها بحسب التوصية البريطانية الأمريكية المشتركة فبدأت بابتداع أعداء وهميين في نطاق الإقليم واعتبارهم مصدر تهديد للأمن القومي وقلق للأوضاع في المنطقة بالمقابل بدأت تمهد لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني لاستكمال فكرة الشرق الأوسط الجديد ، وإن تدثرت في هذا الجانب بثوب الإسلام والحرص عليه إلا أنه إسلام مزيف ادعت أنها من خلاله تجترح بطولات وهمية كانت تجترحها في حلبات الرقص ومخادع المموسات والنوادي الليلية في أوروبا وجنوب شرق آسيا .
في سبيل تحقيق الغايات المأمولة بادرت أمريكا وبريطانيا إلى ابتداع مصطلحات جوفاء فاقدة للمضمون تمكنت عبرها من حرف بوصلة اهتمامات الإنسان العربي الذي أصبح يرى في إيران مثلاً عدواً يهدد وجوده ومصيره ويعتبر إسرائيل صديقاً مأمون الجانب ، هذه النظرة على الأقل تجذرت في نطاق دول الخليج العربي أو في الدول التي أقامت علاقات مباشرة مع إسرائيل لكنها ظلت محدودة وفي مستويات صناعة القرار أي الأنظمة وما يحيط بها من قنوات مكر وخداع استطاعت من خلال ضخ الإعلام الهستيري التأثير على بعض ضعاف النفوس وحرفت البوصلة من القضايا الأساسية إلى القضايا الثانوية ، فانتقلت القضية المركزية للأمة من النطاق القومي إلى المحيط القطري وأصبحت شأناً ذاتياً يتعلق بأبناء فلسطين فقط والآخرون مجرد متعاطفين يلعبون دوراً ثانوياً لا يتعدى بيانات الاستنكار والإدانة في حال اعتداء العدو الصهيوني على قطر عربي وهذا ما حدث أثناء حرب الإبادة الهمجية الشرسة التي شنها العدو الصهيوني على لبنان في 2006م والحروب المتعاقبة على غزة في فلسطين المحتلة . بما اشتملت عليه من بشاعة ولا إنسانية إلا أنها حظيت بمباركة دول عربية ودول الخليج بلا استثناء ذلك الموقف البشع كشف عن حجم الانحراف الذي أصاب المسار القومي والذي تحول إلى انهيار في القيم والمبادئ السامية وكل القواعد التي اشتمل عليها ميثاق الجامعة العربية .
مما تقدم يمكننا أن نعرف الموقف الأخير الذي صدر عن اجتماع مجلس الجامعة العربية بشأن الاعتداءات التي حدثت على السفارة السعودية في إيران ، من حيث المبدأ العمل مدان ومستنكر إلا أنه لا يستدعي كل هذه الصولة وهذا الضجيج الإعلامي غير المنقطع ، لكن يبدو أن الهدف هو إبلاغ الطرف الآخر المعني بالأمر بأن النوايا المبيتة قد تحققت وأن الجامعة فعلاً تحولت إلى ظاهرة صوتية وأن ما كان توجساً ومخاوف بالأمس أصبح واقعاً وحقائق ماثلة فالجامعة التي لم يهتز لها رمش ولم تحرك ساكناً وفلسطين تدمر والعراق يدمر وسوريا تدمر ولبنان يدمر واليمن يدمر أقامت الدنيا ولم تقعدها من أجل بضعة أشخاص كانوا في السفارة السعودية بإيران ، ولم يتوقف الأمر عند ذلك ولكن الجامعة وأمينها العام باتوا يصرخون في وجه كل عربي يتعاطى بإيجابية مع القضية الفلسطينية ويرفض التطبيع مع العدو الصهيوني أي أنها للأسف تحولت إلى معول هدم ودمار وتنكيل لكل من يرفض التبعية ويحافظ على الاستقلال والسيادة ويناصر قضايا الأمة .
نحن لا نحمل الجامعة ككيان بقدر ما نحمل الأنظمة التي سمحت لهذا التخاذل أن يتمدد وأن يصبح سائداً وأن تصبح الجامعة فعلاً عبرية أكثر منها عربية لكننا نقول أن من يسيرون تحت وطأة الموت البطيء ويخوضون حلقات الجهاد المقدس وملاحم البطولة هم الأقدر على إعادة الأمور إلى نصابها وإعادة الجامعة إلى الأمة باعتبارها حاضرة وكيانا يحرص على وحدة الأمة ووحدة المصير والأهداف ، إننا لا نبالغ إذا قلنا أنه ومنذ عقد من الزمن أو أكثر أصبحت البيانات الصادرة عن الجامعة مجرد جمل وعبارات مكرره تحرص على أن تتحدث عن وحدة الصف العربي ووحدة الأمة كمجرد عبارات ديكورية تجمل الجامعة وتؤكد بقاءها في الإطار الذي أنشئت من أجله .
رحم الله الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وأولئك الزعماء الذين أسسوا الجامعة واعتبروها كياناً معبراً عن الأمة لا شك أنهم يتألمون في قبورهم لأن الحال وصل إلى ما وصل إليه فإسرائيل تقتل وتعربد وتدمر وإذا تعبت وكلت كلفت أذنابها من آل سعود والبقية من دول الخليج وكأنهم في مسار واحد وعلى نهج واحد لكننا في نهاية المطاف نؤكد بأن العروبة ستظل صامدة وستظل الجامعة حضنا دافئا مهما تآمر الأعداء ومهما تكالبوا ومهما اتسعت الجراح فإنها لن تمس الانتماء والكرامة والعرض العربي وإن شاء الله النصر قريب قريب قريب .
والله من وراء القصد ..