فن العنوان في “غيمة تتهجى الأفق”

 
الغربي عمران

الأديب منيف الهلالي وأسلوب التساؤل في مجموع نصوص بعنوان “غيمة تتهجى الأفق”.. المجموعة الصادرة في 2013م عن منتدى مجاز الأدبي, إب. تطرح نصوصه الكثير من التساؤلات حول الحب.. والطبقية.. والثورة وكذلك يثير عدداً من القضايا الاجتماعية.
أعود لأيام ماضية حين كنت ضمن حضور ندوة نظمها نادي القصة في مكتبة البردوني بذمار.. وكانت للاحتفاء بهذا الإصدار الذي نتحدث حوله.. استمعت إلى آراء الأدباء والأديبات حول نصوصه الـ أربعة عشرة. ولفتت انتباهي بعض تلك الآراء التي تساير تجنيس النصوص حسب ما يصنفه الكاتب على الغلاف. وقد تكون نصوص المتن على خلاف ما على الغلاف. ولذلك كم حري بنا أن نتناسى ماهية الكاتب وما يشير في تصنيفه.. ونركز على شذى النص وما يحمله موضوعيا وفنيا.
وأذكر هنا بعد صدور روايتي الثائر أن عدداً من الكتاب وفي نفس المكتبة قد تناولوا في ندوة خاصة بالثائر بإشارات إلى أنها لم تكن بمستوى سابقاتها “مصحف أحمر” و”ظلمة يائيل” وقد استبشرت خيراً بتلك الآراء التي تشير إلى وجود نقد واعٍ بالنقد وتناوله بعيداً عن صلة الصداقة بشخصية الكاتب. وأنا على قاعدة “.أن الكاتب شيطان لا يعيش ويترعرع إلا بالجرح..” تماشياً مع المقولة”وإذا نقدت فاجرح”
وبذلك نستطيع الجزم إلى أن لدينا نقداً يتطور ولا يعير لعلاقات المعرفة والصداقة أي اهتمام فالنص هو كائن قائم لذاته.
ما عنيت قوله إن “غيمة تتهجى الأفق” عروس تناولنا ..فهي مجموعة لعدد من النصوص المتابينة بين القصة القصيرة والنص الوجداني.. والخاطرة .. بل والمقاطع الشعرية.. وإن جاءت بعضها ضمن النصوص القصصية. مثل المقطع الآتي في نص بعنوان “نسيم أبدي المساء ” لا.. لست أبحث عن محال في يد الغيم .. أو بين موجات الهزيم.. آثرت أن أمضي إليَّ .. إلى ركامي.. إلى ضياعي…” إلى آخر المقطع. ومن نفس النص مقطع آخر” يا أنت ..يا كل أوجاعي ..يا كل الحروف..يا عزف أحزاني ولحن مواجعي: خذ بيد النهار.. وارسم بريشة الشفق المسافر خطاياهم.. وتلك النزوة الثكلى..أصلب على سارية الغرب ظل الغيمة الأنثى.. ونهدتها.. صل صلاة الخوف.. وأقم لأجل الروح قداس الأمل…” إلخ .. وأيضا من نص بعنوان رماد الصمت “فأنا الذي أسقيت لحظي.. من كانت نبتة الخلد.. ورسمت من غسق الصباح ظلالها .. وغسلت فؤادها بالضوء .. وجمعت فيها نفائس الدنيا .. فصارت لؤلؤة …” إلى آخر المقطع. وهكذا يفاجئ القارئ وجود مقاطع شعرية بإيقاع التفعيلة .. أو بأسلوب الحر .. وكذلك بالصور الشعرية وقد أثثت جل النصوص بصور باذخة.. وفي نصوص المجموعة لا يميز القارئ أين ينتهي الشعر وأين يبدأ السرد.
والملاحظ أن نصوص المجموعة تفاوتت بين نصوص طويلة يصل بعضها إلى العشرين صفحة مثل “مزينة في مهب الريح” و”ارتكب البطولات واختفى” إلى النصوص القصيرة جداً .. والتي قد لا يتجاوز بعضها الخمسة أسطر مثل ” خارطة السقوط” حيث يختتمها الكاتب بعبارة قد تكون نصاً شذرياً رائعاً “الثقة كالدمعة ..إذا سقطت لا تعود”
وإذا عدنا إلى العتبات بداية بعنوان الغلاف” غيمة تتهجى الأفق”.. نجده الكاتب وقد استله من متن النص المذكور أنفا “نسيم أبدي المساء” ولم يستعيره من عنوان نص داخلي.. وحين نتمعن في العنوان غيمة تتهجى الأفق نجده صيغ بصورة شاعرية لافتة .. تجلت فيه صور شفيفة يمكن للقارئ أن يستشف مدلولاته وما ترمي إليه .. ولن أزيد عما يحمله . أو عن إيقاعه.
ثانيا العناوين الأربعة عشر الداخلية إذا استثنينا الإهداءات كعتبات .. وكذلك المقدمة .. والتوطئة.. إلى عناوين نصوص توزعت على ما يقارب المائة والخمسين صفحة قطع صغير. ومن المتعارف عليه أن العنوان عتبة النص.وكثير من الكتاب يهتم باختيار العنوان كمصيدة لقارئ محتمل.
ويهمنا هنا التركيز على الاختزال والتكثيف بصفته أسس الجوانب الفنية الناجحة للنص .. وكما ذكرنا بداية بعنوان النص . وإذا ما عدنا إلى عنوان المجموعة.. فسنجده نصاً قائماً بحد ذاته” غيمة تتهجى الأفق” فيه الصورة.. وفيه الفعل.. وفيه دلالات عميقة.. وفيه ما يدعو القارئ إلى التأمل.
ولم يكتف الكاتب به بل سنجد أكثر من عنوان داخلي بنفس الإيقاع.. مثل”مزينة في مهب الريح”و “وطن على خاصرة دمعة” و”ارتكب البطولات واختفى” وسنلاحظ أن تلك العناوين قد جاءت في شكل نصوص شذرية مكتملة. وللمعرفة فإن الشذرة نص لا يتجاوز الجملة أو الجملتين.. وهو جنس سردي مكثف.. يُنَظِر له بعض النقاد كنص له خصائصه التي تميزه عن القصة القصيرة جدا . ولم يكتف الكاتب بتلك العناوين بل أننا نجد العديد من الجمل ضمن متن نصوص المجموعة تمثل نصوص شذرية.وأتمنى أن يكون القارئ قد جاء بها عن وعي.
وإذا ما بحثنا عن العناوين ذات المفردة الواحدة .. فلن نجدها.. إذا ما تجاوزنا “توطئة”.. لكننا سنجد العناوين المكونة من مفردتين وقد وصلت إلى سبعة عناوين.. والبقية بين الثلاث مفردات وأربع إلى خمسة.
ولن نأتي على ما تحمله تلك العناوين من دلالات وإيحاءات كعتبات مهمة للنصوص .. أو شراك أعدها الكاتب لاصطياد قارئ محتمل.. بل فندنا ذلك لنبين أهمية التكثيف في النص القصير.
ويسمح لي القارئ الكريم أن آتي هنا على جدل حضرته في المغرب يخدم ذات الهدف وإن بصورة غير مباشرة.. وهو حول مصطلحات تصنيف السرد للناقد المغربي.. د محمد رمصيص..إذ يقول: لماذا مصطلح أو تصنيف أو تجنيس الرواية جاء بمفردة واحدة هي الرواية.. بينما الأقل مساحة بمفردتين وهي القصة القصيرة.. والأقل قصراً تصنف بثلاث مفردات وهي القصة القصيرة جداً. رافضين أن يطلق عليها أقصوصة أو أقصودة أو ومضة إلى آخر تلك التصنيفات.
ولذلك نجد أن النصوص الطويلة في غيمة تتهجى الأفق.. قد عالجت قضايا اجتماعية .. وأجزم أن الكاتب رأى أن الأنسب لمعالجة تلك القضايا هي النصوص الطويلة .. بينما المتوسطة غاصت في القضايا العاطفية.. وقضايا ثورية .. أما القصيرة جدا فقد جاءت أقوى فنيا وهي تتعرض لقضايا أكثر حساسية.. وإذا ما تعرضنا للعناوين التي ذكرناها سابقا كنصوص شذرية.. فسنلاحظها أكثر عمقا.. بل وتدفع القارئ للتأمل والتفكير أكثر من غيرها.
وهنا تحضرني مقولة لفيكتور هوغو تقول” لا تكثر الإيضاح فتفسد روعة الفن” ومقولة لنيتشة”اطمح أن أقول في عشر جمل ما يقوله آخر في كتاب كامل”
ويمكن لنا أن نتناول النص الذي تعرضنا له سابقا “نسيم أبدي المساء”
وهو النص جمع تحت عنوانه أكثر من جنس سردي وشعري.. وأجزم بأن هذا النص مركب من عدة نصوص .. فحين يظن القارئ أن الكاتب قد تاه وتشعب عن الفكرة الأساسية .. يكتشف لاحقا بأن ظنه قد خاب.. وأن النص مركب كالشخصية المركبة الصعبة .. فقد نجد الكاتب يطرح في هذا النص أفكارا لرواية. ولتعدد أوجه هذا النص يدعو القارئ إلى استدعاء ثقافته.. واستبطان ما يوحي إليه .. حيث حضر فيه أكثر من رمز .. حين استدعى الكاتب بعض الجمل مثل” صل صلاة الخوف, وأقم لأجل الروح قداس الأمل” ومثل ” بقيت أهز جذع النخلة” ومثل” يغازل حائط المبكى ” ومثل” ويغسل بالطلول مساحة وقف البراق على بابها الغربي” التي تحمل مضامين تاريخية .. وبذلك استدعاء ما يخدم تقريب فكرة النص إلى ذائقة المتلقي.
وجانب آخر ..انشغال الكاتب باللغة ودقة جملها .. إضافة إلى تلك الصور الشعرية المتعاقبة.. أيضا أظهر الكاتب قدراته في فن الحوار كجوهر فني للنص.. وحتى يعود بالقارئ للإستدلال على مكامن الشخصيات.
وقد استخدم الكاتب أكثر من سارد أو راوي.. وهذا ما يضاعف متعة القارئ حين تعدد الأصوات: السارد العليم.. والسارد المشارك .
العمل الإبداعي بحاجة إلى عمل ذهني مسبق.. بحاجة إلى نوع من تقليب الفكرة وسير الأحداث والعلاقات بين الشخصيات قبل البدء في صياغته.
إن التشويق أمر مهم ..كما أن عنصر الإدهاش ركن أساسي لجذب القارئ. وذلك ما نجده في نصوص المجموعة.

قد يعجبك ايضا