إسلام أبو العز
خلال الأعوام الخمسة الماضية، وبتواتر طردي متسارع، أطلت العلاقات بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي برأسها إلى العلن، بعد سنوات من التستر والكتمان والإدارة من خلف الأبواب المغلقة. علاقات اقتصادية وسياسية توجت ـ بطبيعة الحال ـ بعلاقات دبلوماسية مع بعض من دول المجلس هذا العام؛ علاقات بوصلتها تبادل المصالح وتقاطعها، فمن ناحية احتاجت إسرائيل إلى توطيد جذورها المتداعية في المنطقة، بفتح مجالات تعاون استراتيجي مع دول الخليج لا يقتصر على تطبيع تجاري واقتصادي، ولكن سياسياً ودبلوماسياً قائماً على فكرة قبول هذه الدول بوجود إسرائيل في المنطقة بشكل عملي، والتعاون معها في سياسات تخدم الطرفين، سواء باتفاق مصالح استراتيجي، أو تقاطع مصالح مرحلي. وبالنسبة للأخير فإن سوابق دول خليجية لم تعد طي السرية والكتمان، فمؤخرًا أفرجت الرقابة الإسرائيلية عن وثائق عسكرية توثق التعاون بين تل أبيب والرياض منذ حرب اليمن في ستينيات القرن الماضي، تعاون ضد مصر ومشروع ناصر القومي، الذي أرقّ آل سعود وجعلهم يهرعون إلى التعاون مع الإسرائيليين، مما فتح بابًا من التقارب السري استمر طيلة العقود التالية، حتى بدأت الألفية الجديدة، وسعت الرياض إلى تزعم العرب في الاستسلام بقبول الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بشرعيته نظير انسحاب الأخير لحدود ما قبل 5 يونيو 1967م، ملخصة هذا فيما سُميَ بمبادرة السلام العربية عام 2005م، التي لم يقبلها الإسرائيليون، وإن جُعل النقاش حولها من الطرفين مطيّة صالحة طيلة العشر سنوات الماضية للحديث عن تطبيع متبادل سبقه توافق وتقارب، أساسه ضمان الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي للبلدين في ظل الهيمنة الأمريكية، وأن يصبحوا ـحسب الرؤية السعودية ـ ساقي السياسات الأمريكية في المنطقة ومنفذيها، مما جعل الاثنين يصطفان سويًّا في خلاف ثانوي مع إدارة أوباما حول إدارة الأخيرة للسياسات مع إيران.
هذا العام لم يشهد فقط استمرار التعاون بين إسرائيل ودول خليجية، بل كان العام الأخطر من حيث مدى العلانية التي وصلت لها العلاقات الخليجية ـ الإسرائيلية على تنويعاتها، وكذلك محاولات تجذيرها بين شعوب الخليج بدعائيات المصالح المشتركة وقبول الآخر، وهذا الأمر بديهي تنفيذه عن طريق الإعلام، الذي لم يختلف خطابا هذه الدول وإسرائيل كثيرًا حول أمور أعدوها مشتركات بديهية، مثل التصدي للخطر الإيراني، التصدي للتطرف الذي هو بالنسبة لهم يضم المقاومة حصرًا، بينما يرون، على سبيل المثال لا الحصر، أن جبهة النُصرة في سوريا نموذج لـ”المعارضة المعتدلة”؛ والأخيرة هذه كانت أيضًا أحد نقاط التلاقي بين الإسرائيلي والسعودي، فبينما تمول وتسلح الرياض الإرهابيين في سوريا، توفر لهم إسرائيل الغطاء الجوي والعلاج الطبي إذا لزم الأمر. وإن سبق هذا بطبيعة الحال تمهيد على مستويات نخبوية ووسيطة أكدتها وثائق الخارجية السعودية التي نشرها موقع ويكيليكس، التي كشفت المزيد عن التطبيع بين المملكة وإسرائيل.
نقاط التفاهم والتلاقي كانت على رأسها بطبيعة الحال كيفية مواجهة إيران، وهنا بالتحديد شكلت الرياض قاطرة لباقي دول مجلس التعاون للاصطفاف مع إسرائيل فيما يخص إيران وبرنامجها النووي، وهو الاصطفاف الذي لم يكن مُلحًّا لهذه الدول مثلما كان ضروريًّا وعاجلًا بالنسبة لكل من الرياض وتل أبيب، إلى درجة ذهبت فيها الأولى مع الأخيرة إلى موقف شبه موحد من أطراف الأزمة النووية كافة، والتنسيق على مستويات دبلوماسية وسياسية وحتى عسكرية بشكل معلن وعبر قنوات شبه رسمية ورسمية، كان بطلاها من الجانب السعودي، الأمير تركي الفيصل، عراب التقارب والتطبيع، واللواء في الاستخبارات السعودية، أنور ماجد عشقي، الذي كلل مساعي الأول طيلة السنوات الماضية بلقاءات أمنية مع مسؤولين إسرائيليين، بوابتها مؤخرًا الاتفاق النووي الإيراني الذي كان على وشك التوقيع حينها، فلوحظ منذ بداية هذا العام تنامي سريع في وحدوية موقف السعودية وإسرائيل، تجلى في الخطاب السياسي والإعلامي، وتطور إلى تنسيق يهدف في مرحلته الآنية إلى إيجاد طرق ضغط على الإدارة الأمريكية لعرقلة الاتفاق النووي. بداية من تأييد خطاب نتنياهو في الكونجرس ودعوة كُتاب سعوديين أوباما للاستماع إليه، وصولًا إلى تأييد ساسة ومسؤولين إسرائيليين لردود فعل القادة السعوديين تجاه الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني.
الاصطفاف الخليجي وتبايناته فيما يتعلق بطبيعة التعاون مع إسرائيل وطريقته، لم يلبث أن انزوى لصالح حاجات مُلحة سياسية وعسكرية، تمتد من سوريا إلى اليمن، وحروب الوكالة التي تخوضها وتحشد لها السعودية ومن خلفها دول خليجية أخرى، التي استدعت أن تصبح خيارات مجلس التعاون الخليجي الخاصة بأمنها الدفاعي، سواء من تهديدات مختلقة من الصواريخ الإيرانية أو الأخرى الناتجة عن الحرب المشتعلة في اليمن وتأزم الموقف في سوريا وتداعيات ذلك، أن تصبح منظومة «القبة الحديدية» الإسرائيلية المضادة للصواريخ خياراً لدول مجلس التعاون، وإعلان نية هذه الدول شراءها من إسرائيل على لسان وزير الخارجية البحريني، خالد بن محمد آل خليفة، الأمر الذي مثل ذروة علانية العلاقات بين إسرائيل ودول مجلس التعاون، التي يراها محللون في أوج ازدهارها الاقتصادي والسياسي، وأن ما يحدث في السنوات الأخيرة على هذا الصعيد ليس سوى تمهيد لعلانية العلاقات بالكامل والتطبيع الرسمي الذي وصل بين الإمارات وإسرائيل إلى حد افتتاح ممثلية دبلوماسية للأخيرة في أبو ظبي، وفي الجهة المقابلة، كان على تل أبيب أن تحدد اختياراتها بناء على أولويات عديدة من ضمنها علاقاتها مع حلفائها الجدد في الخليج، حتى على مستوى اختيار القيادات الأمنية والسياسية، فاختيار نتنياهو لرئيس الموساد الجديد لم يكن سوى عنوان أن الأخير من ضمن أولوياته تعزيز العلاقات بين تل أبيب ودول الخليج.
من المهم استخلاص دلالات ما حدث في هذا العام على مستوى العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج، ويمكن اختصار هذه الدلالات في نقطتين مرتبطتين بشكل بنيوي؛ الأولى أن الكيان الصهيوني يدرك أن استمراره لسنوات مقبلة رهن إقامة علاقات طبيعية مع الدول المحيطة، دون ذلك تتقلص فرصة استمرارية إسرائيل حتى مع كل الضمانات العسكرية والسياسية والاقتصادية، الثانية أن ضمان استمرار إسرائيل ضمان لاستمرار نُظم إقليمية بشكلها الحالي وعلى رأسها السعودية، التي وفرت آلية سياسية لذلك متمثلة في المبادرة العربية، وما تبعها من ترويج وتسويق لحتمية التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني.
يبدو أن السنوات المقبلة ستشهد على هذا الصعيد محاولة توفيق آلية تضمن تنفيذ ذلك، وأن بداية هذه الخطة الاستراتيجية طويلة المدى، التي من المتوقع أن تتجاوز هذه المرحلة من العلانية وأمر الواقع إلى مرحلة التمثيل الدبلوماسي المتبادل في السنوات القليلة المقبلة.
كاتب صحفي مصري