عبدالوهاب الضوراني
بدأ الناس في حارتنا وبقية الأحياء الأخرى المجاورة في التوافد والاحتشاد الواحد تلو الآخر وسط الخيمة التي أقاموها على نفقاتهم فوق انقاض عمارة سكنية مهجورة بعد أن إخلاء سكانها كالكثير من النازحين الذين غادروا مساكنهم خوفاً من صاروخ ينطلق فجأة هنا أو هناك أو غارة من غارات قوات دول التحالف والائتلاف أخطأت هدفها ومسارها، كما هرع إلى الخيمة أيضاً الغرباء والشحاذون وجموع من سكان الأحياء البعيدة الذين جاءوا تباعاً من كل مكان وحدب وصوب ليكونوا في طليعة استقبال جثمان الشهيد القادم كغيره من الميدان وأرض المعركة حتى لم يعد بها متسعاً أو مكاناً شاغراً وموطئ قدم. ما أكثر الشهداء والضحايا من الفتيان من خيرة أبناء الوطن الذين يتساقطون كل يوم وكل وقت وفي كل جزء من أرض الوطن كأوراق الخريف والذين يخوضون الآن العديد من المعارك البطولية والمشرفة للدفاع عن الوطن ووحدته وكرامة أبنائه وسلامة أراضيه والذي كان شهيدنا البطل أحد الرجال والفرسان الأشاوس الذي سقط ويده لا تزال قابضة على زناد بندقيته حتى لفظ أنفاسه الأخيرة .. من يصدق أو يتبادر إلى ذهنه يوماً أن صاروخاً انطلق من على متن بارجة داخل المياه الإقليمية أدى إلى مصرع كم هائل من الشهداء معظمهم من النساء والأطفال حيث كان الشهيد أحد ضحاياه أيضاً؟.
أبو الشهيد والذي كان بدوره مقاتلاً وجندياً في إحدى وحدات الجيش الشعبي ومنظومة القوات المسلحة .. داخل الخيمة يبادل الضيوف والوفود وكبار الشخصيات جملة من عبارات المجاملة والمواساة ويقول متباهياً أن ابنه الشهيد كان يحلم دائماً بهذا اليوم منذ نعومة أظافره وينشد الشهادة كغيره من الفتيان داخل الميدان وأرض المعركة وقد تحقق حلمه أخيراً .. ويضيف قائلاً: وهو يحاول ترتيب جزءٍ من سماطته وإعادة أحكام عقدتها مجددا ( عندما كان الشهيد طفلاً يلهو ويلعب مع أقرانه الصغار في فناء الحارة كان حلم الوطن أن يراه يوماً آمناً موحداً مزدهراً يراوده ولا يفارقه لحظة أو طرفة عين) وعندما تعرض لأسوأ مؤامرة عرفها التاريخ المعاصر في محاولة أخرى أثبتت في الماضي فشلاً ذريعاً ومتكرراً لتمزيقه واستهداف أمنه واستقراره وسيادته ووحدته الوطنية وقتل أطفاله حمل البندقية وهو لا يزال قاصراً لا يفقه شيئا وتوجه كغيره والمئات من المجاهدين والمتطوعين والفتيان الى الجبهة للتحالف بإخوانه رجال المقاومة والمقاتلين الذين سبقوه إلى هناك ليخوض معهم جنباً إلى جنب اعتى المعارك الشرسة والفاصلة حتى سقط كغيره في إحداها شهيداً .. أبو الشهيد داخل الخيمة ووسط المحنة وضوضاء المحتشدين وثرثرتهم وتبادل سخافتهم أحيانا يبدو أكثر جأشاً وصلابة وكبرياء لم ينهار أو يذرف دمعة واحدة وكفاه فخراً وعزاءً أن ابنه سقط شهيداً وبندقيته في ديهوهو لا يزال يقاوم ويقاوم بكل شجاعة واستبسال متصدياً مع رفاقه الابطال والمقاتلين ضد قوات دول التحالف وعملائهم من المرتزقة وأعداء الوطن وطائراتهم وعدتهم وعتادهم حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وبسقوط البطل والمجاهد الصغير الذي أشاع في الحارة وقلوبنا جميعاً أجواء حدادية ومواجع جمة ومتفاقمة اعتبر في تاريخ حارتنا يوماً تاريخياً واستثنائياً وعرساً من أعراس الوطن إنه يوم الشهيد وسقوط الفارس البطل الذي ترجل عن جواده وهو ينزف دماً يوم استعاد فيه الوطن وأبناؤه كرامتهم وكبريائهم، وجزء من تاريخ أمجادهم التي شيدها أجدادهم على مر العصور ومنذ فجر التاريخ فوق أشلاء وجماجم الشهداء و جثامين الأطفال من خيرات أبناء الوطن الذين سطروا بدمائهم الزكية وأرواحهم أروع الملاحم البطولية وصنعوا أعظم الانتصارات.
أبو الشهيد لا يزال في الخيمة يستقبل بحفاوة ورباطة جأس وأكثر ثباتاً مزيداً من طوابير الزوار وكبار الضيوف ويشيعهم عند المغادرة أيضاً والابتسامة لا تفارقه ووجهه مملوء بالبشر والطمأنينة والرضى بقضاء الله وقدره، وعندما يخطر طيف ابنه الشهيد الذي لم يفارقه في حياته طرفة عين في مخيلته يبتهل إلى الله في قراراة نفسه أن يحتسبه مع الآخرين من الشهداء والأبرار، وعندما يسمع كلمة (أبو الشهيد) تتناهي لأول مرة إلى أذنيه يشعر كأنه وساماً وإكليلاً من الغار تدلى فجأة فوق صدره، صور الشهيد وغيره من الشهداء والمجاهدين تملأ كالعادة الجدران وتزين واجهات وخلفيات السيارات تكريماً وتخليداً لذكراهم العطرة وما سطروه في حياتهم من تشحصيات ومواقف وطنية مشرفة ورائعة ستكتب لهم على مر العصور في سجل التاريخ وذاكرة الأجيال بماء الذهب، عندما جاء موكب الشهيد وجثمانه الطهور مسجياً على متن سيارة هيلوكس مكشوفة استقبله الناس في الحارة والأطفال والنسوة من النوافذد والشرفات بالزغاريد والأناشيد والهتافات وغيرها من الألعاب النارية وكأن المناسبة والحدث عرس ونوع من مظاهر الفرحة والابتهاج وليس موكباً جنائزياً وشهيداً من شهداء الحارة والوطن قادماً لتوه من الميدان وأرض المعركة .. والأب يغادر رحاب خزيمة كآخر المشيعين كان صوت ابنه الشهيد تتردد أصداؤه في أذنيه (أحمد الله من الآن فصاعداً سيناديك الناس في الحارة بأبي الشهيد).
Next Post