بقع الضوء وغياب العقل

نبيل نعمان

عانت اليمن خلال العصر الحديث وعلى مدى نحو نصف قرن تقريباً من أزمة حكم وظلت تتأرجح في محاولات قليلة ومتفرقة لإرساء أسس حكم رشيد وتعددي دون جدوى، وفي كل مرة تلوح في الأفق توجهات من هذا النوع سواءً من قبل السلطة الحاكمة أو بدفع من قوى ونخب متنورة سرعان ما تخفت وتتوارى تحت وطأة عوامل عديدة وكوابح متنوعة أبرزها سطوة التفكير التقليدي والنزعة الماضوية العصية على التجديد والقانعة بوضعها وواقعها في أحسن الأحوال .
هذه الانتكاسات المتكررة خلقت حالة من الركود في الفكر والممارسة وتجمد معه الفعل الخلاق والحلول المبتكرة لأزمة الحكم في اليمن وتآكلت معه بقع الضوء التي بدأت تلوح في الأفق في العقدين الأولين أو الثلاثة من عمر الجمهورية في أحسن تقدير فاسحة المجال لخواء ظل يتراكم في العقود التالية مفرزاً حالة تيه نعيش إفرازاتها اليوم وستظل تفعل فعلها وتنخر في جسد الوطن المثخن بالجراح ما لم يتم الخروج منها سريعاً والتأسيس لشيء مختلف يطلق العنان للإبداع ويزيل التكلس الذي غطى على كل ما هو جميل في هذا المجتمع القادر أن توفرت له المقومات الموضوعية أن ينهض من كبوته ويتجاوز مآسي العقود الغابرة ويبدع فعلاً خلاقاً وعصرياً .
كثيرة هي أدوات تشتيت وتفتيت الفعل الايجابي وتمييع محاولات الإمساك بتلابيب النهوض .. خبرنا بعضها خلال العقود الماضية في صور عديدة تارة تأتي على شكل انقلابات وأخرى  في الالتفاف والتمييع للجهود البناءة وصولاً إلى التلاشي والذوبان وثالثة باللجوء إلى القوة لخلط الأوراق والقفز على إرادات الناس وتطلعاتهم وكل هذه الأدوات تمسك بها في الغالب قوى وتحالفات تقليدية ثابتة مع بعض التحرك في هذا الاتجاه أو ذاك تكيفاً مع الظروف دون حدوث انحيازات إلى الأمام إلا في الشكل دون المضمون .
هذا التلون أو المرونة السلبية – إن جاز التعبير – في التعاطي مع القضايا الوطنية أكسبت هذه القوى حركة أكبر وفعلاً دفع بالبعض إلى التعاطي بل الاندماج معها وهو ما شكل على الدوام عامل ديمومة وقوة لها على حساب جهود التحديث، حيث كانت توحي فيها هذه القوى بالتغير وتقديم نفسها بشكل مقبول مستغلة البنى المجتمعية القبلية وتنمو طردياً مع تواري فعل قوى الحداثة، لكنها ما إن ترقب العودة المتدرجة للفعل الايجابي لقوى التنوير جراء عوامل موضوعية وذاتية سرعان ما تستبق هذا الفعل بإنتاج نفسها بأدوات بعضها مألوفة وأخرى مبتكرة في دورة جديدة من الصراع وتفويت الفرصة على كل محاولات تحييدها والتقليل من آثارها المجتمعية وتأثيرها السلبي على النهوض الوطني .
واليوم يتفق الجميع بأن اليمن يعيش وضعاً غير سوي برز بعد بارقة أمل ومخاض عسير لميلاد جديد لهذا البلد، لكن المولود وئد وقطع الطريق مرة أخرى لأي محاولة تحديثية بدأت تلوح في الأفق وتهدد بتفكيك منظومة القوى التقليدية خالقة وممهدة بذلك وضعاً مرتبكاً أفضى إلى أزمة قابلة لتوليد أزمات أكبر وأوسع بدافع ضمان عودتها القديمة المتجددة وحضورها المألوف في رسم مستقبل الوطن دونما حركة إلى الأمام تنسجم ومتطلبات العصر وصيروة التاريخ .
هذا البلد لم يعد يحتمل المزيد من التهور والطيش والقفز نحو المجهول بعد أن تشبع ويلات ومآسي هكذا ممارسات وضعته في ذيل القوائم العالمية في كل ما يتعلق بشؤون حياته وإنسانيته منذ ما قبل مولده وحتى بعد مماته .. ووحده العقل أو قليل منه يمكن أن يعيد لليمني إنسانيته وكرامته المهدورة في وطنه أولاً وفي أصقاع الأرض تالياً .. وهذا ليس بمستحيل ولا بكثير على هذا الشعب .

قد يعجبك ايضا