v محمد العريقي –
عندما كنت اكتب المسابقات الرمضانية التي كان يمليها عليه مفكر اليمن وشاعرها الكبير الأستاذ عبد الله البردوني رحمه الله كان يتحدث عن مقاطع أدبية وخاصة التي فيها صور جمالية وطبيعية , وكان دائما يركز على تلك الأبيات التي تقدم الصور الحسية الجمالية لمشاهد الخضرة والأشجار والطيور , وكان دائما مايركز على أن جوهر كل ذلك الجمال يكمن في المياه , فالحياة الجميلة , عادة ماتكون قرب البحيرات والينابيع والجداول , والغيول , وكان يحدثنا كيف كان سكان صنعاء يقومون برحلات جماعية وفردية نحو الضواحي التي تجري فيها المياه , وتنتشر فيها البساتين , ويستمتعون بمناظر البيئة الطبيعية ويسمعون خرير المياه .
وفي الثقافة الشعبية اليمنية الكثير من الصور الحسية والروحية عن قوة الارتباط بين الإنسان والبيئة الطبيعية .
والتراث الشعبي الفني والأدبي يعكس جمال الطبيعة التي كانت تتمتع بها العديد من المناطق اليمنية , وهناك كثير من الحكايات التي كان الآباء والأجداد يروونها لنا عن مناطق كانت عبارة عن منتجعات للترفيه والتأمل يرتادها السكان القريبون منها وكانت المياه أبرز مايميزها ويجذب الزائرين إليها .
فكان على سبيل المثال يخرج سكان صنعاء مشيا على الأقدام إلى مناطق حدة والروضة ووادي ظهر للاستجمام والاستمتاع بمناظر الطبيعة الخضراء , التي تصدح فيها أصوات العصافير , وفي تعز كانت هناك العديد من الوديان الزاخرة بالمياه والكثيفة بالأشجار مثل وادي الضباب , ووادي ورزان, أما محافظة إب فكانت ولازالت رمز اليمن الخضراء فأطلق عليها باللواء الأخضر , ووادي بنا المليء بالشلالات والسوائل يسقي على ضفافه غابات واسعة تعيش فيها مختلف أنواع الطيور وحتى الحيوانات المتوحشة , التي انقرضت مع شح المياه وتراجع الغطاء النباتي كانت تلك الحيوانات تسكن الوادي كما تحدث لنا بعض كبار السن .
ومثلت بساتين الحسيني في محافظة لحج أفضل الأماكن التي كان يزورها سكان مدينة عدن والمناطق الأخرى لجمال البيئة الطبيعية لذلك المكان , وهناك العديد من مناطق حضرموت والمحويت والمهرة , وسقطرى لاتزال بمثابة منتزهات ومعالم سياحية في اليمن حيث يلعب وجود المياه في تلك الأماكن أهم عناصر الجذب السياحي إليها.
فليس هناك أجمل وأروع من أن يستمتع الإنسان بمناظر الطبيعة الخلابة التي تكون المياه أبرز مكوناتها .
وعندما خفت الأمطار وتوالى الجفاف شهدت الكثير من الوديان شحة المياه إلى درجة النضوب في بعضها تماماٍ, .و ساعد على ذلك إهمال المزارع صيانة المدرجات الزراعية القريبة من تلك الوديان والتي كانت تساعد في تغذية الينابيع والآبار السطحية والأحواض والخزانات الصغيرة , وهذا الوضع جعل الكثير من الناس يهجرون قراهم إلى المدن.
إن الجفاف ظاهرة طبيعية .. فقد عرفت اليمن الكثير من سنوات القحط ولكن ظل الإنسان اليمني في الريف يتعامل مع هذه الظاهرة دون يأس أو إحباط .. فعـند موسم الأمطار تزول الغمة ويستبشر الناس خيراٍ ويبقـون على تمسكهم بالأرض مخلصين الجهد لخدمتها.
وكلما تخلى الإنسان عن الأرض تعرضت المدرجات الزراعية للتدهور والاندثار وشحت المياه. . فإزالة الأشجار وهجرة المدرجات والانصراف عن أنظمة حصاد المياه التقليدية أدى إلى أحداث تعرية واسعة للتربة, ورفع مخاطر السيول .. وإلى تقليص الخزانات الجوفية.
و قد لعبت الإتكالية دورا أساسيا في إلحاق هذا الضرر وبالتحديد عندما توسعت الدولة في تقديم خدماتها خاصة في مجال توفير المياه دون اعتبار لمصادر المياه السطحية .. فاتـجه المواطن إلى مطالبة الدولة بتوفير المياه بطريقة أو بأخرى وأهملت الطرق التقليدية كإقامة الأحواض التي كانت تعتبر بمثابة الحاضن للمياه التي تتجه إلى الينابيع .
ولا نستطيع أن ننكر الاهتمام الذي توليه الدولة بتوفير مياه الشرب لسكان الريف من خلال تنفيذ العديد من المشاريع وكذا ظهور المبادرات التعاونية لحل أزمة المياه في بعض المناطق .. وتطورت مع هذا التوجه أساليب وطرق تجميع المياه.
ولكن هذا التطور في التنقيب واستخدام المياه لم تواكبه نظرة مماثلة للجوانب السلبية التي تلحق بالبيئة.
فالإنسان يقيم المشاريع المائية الضخمة لسد حاجته اليومية من الماء ولا يولي إلا القليل من الخدمات البيئية المتعددة والضرورية للوديان والأراضي الرطبة عند استنزافها.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب بل إن مخزون المياه الجوفية يستنزف بدون نظرة متروية لمصير الأجيال القادمة.
أن خطورة الندرة تظهر من خلال اثنتين من مهام الماء الرئيسية هما:
أولاٍ: كسلعة تخدم الهدف الاقتصادي لغرض خلق إنتاج زراعي متقدم وتطور صناعي ونمو حضاري للإنسان.
ثانيا: كعصب لحياة الكائنات الحية والمجتمعات الطبيعية الأخرى , فكل قطرة من الماء تخصص لحاجة من حاجات الإنسان تعني تضاؤلا في كمية المياه المخصصة لأجل الحياة البيئية , وللأسف فإن الخسارة في مناطق عدة كانت على حساب النظام الطبيعي.
إن الفوضى والاضطراب الذي أصاب وضع المياه, والتضاؤل في مساحات البراري أدى إلى تقلص في عدد الطيور في المنطقة والأحياء البرية, فالمشاريع المائية الضخمة مع الجفاف وتدمير النظام البيئي أدت في كثير من الدول إلى انقراض الكثير من الكائنات الحية وتصل هذه الأصناف إلى درجة الانقراض نتيجة تصرفات الإنسان المتكررة التي تنتهي بتقويض الأسس الطبيعية الضرورية لحياتها , ويكون ذلك أما بتغير توقيت أو كمية أو نقاء المياه المتوافرة في المصدر المائي الذي تقطنه تلك الكائنات.
إن كل تهديد تتعرض له ارض رطبة أو كائن مائي أينما وجد ما هو إلا اختبار حقيقي لمدى تمكن سكان تلك المنطقة واقتصادهم من التكيف مع نظم المياه في الكون.
إن القوانين واللوائح المعمول بها اليوم في معظم أنحاء العالم تحابي الإنسان على حساب الطبيعة , تمكنه من سحب كميات من المياه لا حدود لها خدمة لأغراضه وعلى حساب المصلحة العامة , في حين يتم التغاضي عن أدوار الماء الأخرى كلياٍ والتي حتما لا تقل أهمية عن باقي الأدوار مثل الدور الترفيهي والمساهمة في حفظ الكائنات الحية . وقد لوحظ أن الأضرار البيئية في المناطق التي توجد فيها وفرة مائية – إلى حد ما – تعد محدودة بينما حالات بيئية مرعبة في المناطق التي تعاني من ندرة مائية حادة, أما المناطق التي يتم فيها تحويل مياه مجاري الأنهار بإفراط فأن الأضرار البيئية تكون فادحة .إن سوء استعمال الإنسان للماء يعرض حياته ومحيطه الطبيعي لخطر شديد فإقامة السدود وتحويل وتلويث المصادر المائية دون اعتبار للخدمات البيئية والشعور بأهمية التنمية المستدامة كل ذلك يؤدي إلى إهلاك المظاهر الحياتية .
إن التضارب بين حاجة الإنسان وحاجة الطبيعة نلمسه في مناطق عديدة, فكثير من الدول ترغب في توظيف مواردها المائية في تطورها الاقتصادي على حساب البيئة,فيلاحظ أن الاستنزاف آخذ في التصاعد في دول العالم النامي الأمر الذي يعد عامل إجهاد لمصادر المياه الطبيعية فيها والتي بلغت بالفعل حدها الأقصى .
كما أن انعكاسات شح المياه تطال كل نشاط التنمية وتصل حتى الإضرار بالمعالم السياحية .
فالمياه أصبحت مكونا أساسيا في الخدمات السياحية والترفيهية , كما يمكن ان تكون المياه في حالة الفيضانات مدمرة للمعالم السياحية , ومثل ذلك يمكن أيضا أن تنهار مبان ومدن سياحية إذا ماسحبت المياه من باطن الأرض التي أنشئت عليها تلك المعالم .
فاستنزاف المياه من باطن الأرض يؤدي إلى هبوط الأرض ويؤدي إلى حدوث تصدعات في المباني القائمة على سطح الأرض .
وعلل بعض الخبراء أسباب الانهيارات التي شاهدتها منطقة الظفير قرب العاصمة صنعاء أواخر عام 2005بالافراط في سحب المياه الجوفية حول تلك المنطقة , وفي المكسيك تعرضت الساحة التاريخية في عاصمتها مكسيكو سيتي للهبوط, وأخذت الكاتدرائية التي شيدت في القرن السادس عشر, بركنها الأيمن تغوص في الأرض أكثر من ركنها الأيسر وأصبح هذا المبنى مربوطا بالأسلاك المعدنية بسبب استنزاف المياه الجوفية في المنطقة .
فالمدن التي تعاني شحة مياه تظهر آثارها في نواح كثيرة بما في ذلك الجوانب الترفيهية . فالمسابح تتوقف ويقل انتشارها وتتوقف النوافير في الساحات العامة , ففي المغرب تعالت أصوات الصحف من خطورة الندرة وانعكاس ذلك على الوضع السياحي والترفيهي . فصحيفة « الصباح» المغربية نشرت , عن المخاوف التي تسود بين سكان مدينة فاس من احتمال تعرض المدينة إلى ندرة المياه الصالحة للشرب وهم لا يجدون أي تبرير لانقطاع هذه المياه الحيوية عن آلاف النافورات التي ألفت الآذان سماع خريرها . ودقت بعض الأطراف ناقوس الخطر ونبهت لما يمكن أن يكون لذلك من تأثير سلبي على عاصمة العلم والمعرفة المهددة بفقدان ((روحها)), وبسبب الندرة تذبل الأشجار والحدائق التي تمثل متنفساٍ للسكان .. ماذا عن بساتين صنعاء وتعز ولحج وعدن ¿¿¿
Prev Post
Next Post