فايز محيي الدين
آمنة العرجاء، هذا هو لقب وصفة الشخصية التي اتخذتها الأديبة لمياء الإرياني بطلةً لروايتها (امرأة ولكن).
الرواية فازت بجائزة الدكتور عبدالعزيز المقالح الثقافية في دورتها الأولى عام 2011م، وتم طباعتها بالتعاون مع دار عبادي للطباعة والنشر، وتقع في 145 صفحة من القطع الصغير.
ومن خلال معرفتي بالأديبة لمياء الإرياني واشتغالها في المجال الحقوقي وبالذات حقوق الأطفال، أجد أن طبيعة عملها قد عكسته من خلال تناول ظاهرة اجتماعية ومأساة تعيشها فئة من المجتمع الذين نُطلق عليهم (ذوي الاحتياجات الخاصة).. فقد استطاعت من خلال بطلة الرواية (آمنة العرجاء) أن تنقل صورة واقعية لما يعيشه الفرد المُعاق من آلام ومعاناة في مجتمعٍ لا يرحم، وإن رحمَ فبنظرة توحي للمعاق أنهم يتعاملون معه بدونية.
وبهذا نستطيع تصنيف الرواية ضمن الأدب الإنساني، لكنها من منظور فني لا تعدو عن كونها قصة متكاملة لشخصية محددة في زمن محدد، فيما الرواية من طبيعة تكوينها أن تشمل عدد من الشخصيات المحورية والثانوية الذين تدور الأحداث حولهم وبهم ومن خلالهم وتتشعب لأزمنة مختلفة ومواضيع كثيرة.
فكرة الرواية/القصة جميلة وأسلوب القاصة سلس لا تعقيد فيه ولا نشاز ولا ملل، وهذا يدل على تمكنها من فن السرد وأنها قادرة على الإتيان بعملٍ روائي مُدهش، إن لم يكن فريدا. ونحن نلتمس لها العذر في هذه الرواية كونها أول عمل قصصي أو روائي تقدمه، فيما سبقت ذلك بإصدار مجموعتي نصوص أدبية بديعة ذات لغة شعرية عالية هما: (إليك همس ذاكرتي) و (ثرثرة حنين). وبهذا تكون من الأدباء القلائل الذين يجمعون بين إجادة الشعر والسرد معاً.
في مجتمع مدينة صنعاء وبالتحديد عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين تدور أحداث الرواية، وفي غرفة مُلحقة بحوش أحد المنازل التابع لأسرة ميسورة الحال تنشأ آمنة العرجاء التي تعيش مع أمها في تلك الغرفة، وأمها تعيش من خدمتها لتلك الأسرة الذين يعتبرونها منهم كما تؤكد ذلك أم آمنة لابنتها آمنة حين تلمس لديها الضيق والتبرُّم من طبيعة عملها، وهو ما يقولهُ لها أهل ذلك البيت، إلا أن آمنة كانت تشعر في قرارة نفسها أن هناك فرقاً بينهم وهُوَّة عميقة لم يستطع عقلُها الباطن ردمها أو استساغة مبرراتها أو تقبلها البتة، خاصة وهي ترى صديقتها سارة بنت تلك الأسرة تعيش أفضل منها بكل شيء، وهي حين تنال أشياء تكون قد استخدمتها سارة أو تحصل عليها من أسرة سارة كفضلٍ وليس كحق.
مع الأيام تنمو تلك العُقدة في داخل آمنة، خاصة وهي ترى البون الشاسع بين الميزات والحياة المترفة التي تعيشها سارة بنت الذوات وبين واقعها وهي تعيش في غرفة مُلحقة بمنزل تلك الأسرة وتقتات من خيراتهم نظير ما تقوم به والدتها من خدمةٍ لهم.
حاولتْ أمها أن تروضها للقبول بواقعها وبما كتبه الله لهما لكن الأسد الرابض في ذاتها كان دوماً يأبى الاستسلام والرضوخ لهذا الواقع المرير.
حاولَتْ أن تدرس وتتعلم لتحقق طموحاتها بوظيفة محترمة تكفل لها العيش الكريم بعيداً عن الخدمة مثل أمها في بيت تلك الأسرة الموسرة، لكن مجتمعها الظالم لم يرحمها، بدءاً من المدرسين والمدرسات ومروراً بزملائها في المدرسة وانتهاءً ببقية الناس في الشوارع، فكلهم لا يرحمون ولا يزالون ينظرون للمعاق نظرة دونية.
وهنا تتجلى الرسالة الإنسانية السامية التي أرادت الأديبة لمياء الإرياني إيصالها للمتلقي، خاصة وأنَّ آمنة تضطر بعدها لترك المدرسة وتعود حبيسة تلك الغرفة وذلك البيت للخدمة فيه إلى جانب أمها.
ويشاء القدر أن يزيد آمنة ظلماً على ظلمها حين يصارحها زميلها أحمد، الذي كانت تهيم في حبه وتبني على ذلك الحُب قصوراً مِن وهْمٍ لذيذ وأحلام وردية ومستقبل مشرق، أنه يحب صديقتها سارة، بل ويطلب منها وبشكلٍ فج يجرح مشاعرها ويمزق أحاسيسها أن توصل لسارة رسائله الغرامية!!
يا للقدر ما أقساه، ويا لحظ هذه الفتاة المسكينة العاثر كيف تُصاب بنكساتٍ متتالية، إعاقة وحرمان من الدراسة ووأد لأحلامها المستقبيلية.. فماذا تبقى لها بعد؟؟!!
وقد أحسنت الإرياني في توظيف الوصف خلال سرد مأساة آمنة بشكلٍ بديعٍ يُرغِم المتلقي على معايشة البطلة آلامها والتعاطف معها، وبهذا نجزم أن الإرياني نجحت بشكل كبير في إيصال رسالتها الإنسانية التي هدفتْ إليها من خلال هذا العمل الأدبي الإنساني.
تكبر سارة وتتزوج شخصاً غير أحمد وتسافر معه الخارج، وتموت أم آمنة فتضطر آمنة للبحث عن عمل تقتات منه بعد رفضها للعمل مكان أمها في خدمة أسرة سارة، ولم يكن أمامها من فرصة لعدم امتلاكها أي مؤهل دراسي وانعدام أي مؤسسة مدنية تأخذ بيدها وتؤهلها لسوق العمل سوى أن تحترف بيع الخبز والملوج في شوارع صنعاء، لتبدأ رحلة معاناة جديدة تكتشف من خلالها عوالم لم تكن تخطر لها على بال. ومن خلالها تعكس القاصة جوانب مظلمة من تركيبة المجتمع الذي يحمل في طياته الكثير من المتناقضات. وكان بمقدور الروائية أن تتوسع في هذا الجانب لتعطينا صورة متكاملة ودقيقة عن هذا الجانب المُظلِم في تركيبة المجتمع من خلال مغامرات أو تجارب لبطلة القصة (’منة العرجاء) ومن خلال شخصيات أخرى تكون داعمة للشخصية الرئيسية إلى جانب شخصيات ثانوية تكتمل بواسطتها أبعاد الصورة المجتمعية الواقعية بكل مآسيها.
والأجمل حين تطرقت إلى مأساة حرب صيف 1994م وما رافقها، وكأنها تنقل واقعنا الذي نعيشه اليوم، وإن كان واقعنا اليوم أنكى وأمر.
وكان بإمكانها وقد طرقت هذه القضية أن تتشعب بها أيضاً لتضيء الكثير من جوانبها عبر شخصيات أخرى وأمكنة متعددة تكفل للرواية أن تبلغ حد الاكتمال والنضج الفني والموضوعي.
لكني أراهن على أنه لا يزال في جعبة الروائية الكثير وأنها قادرة مستقبلاً بالإتيان بعملٍ روائي يبهر الجميع.
لمياء الإرياني نستطيع أن نقول أنها كتبت هذه القصة وهي تعي تماماً ما تريد إيصاله للمتلقي، وكان لديها رسالة إنسانية محددة وقد استطاعت إيصالها بنجاح من خلال قالب أدبي بديع.
كما أنها كانت تمتلك الكثير من الرؤى التي لمَّحت إليها من خلال السرد لحكاية آمنة العرجاء كقضية تناول القات ومجالس التفرطة للنساء وما تمثله شجرة القات من نكبة على المجتمع اليمني.
كذلك قضية المظاهر المسلحة وقضايا المهمشين (الأخدام) وأطفال الشوارع. لديها في ذهنها العديد من المواضيع، فقط ربما تحتاج لوقتٍ كافٍ كي تُبرِز كل تلك المواضيع إلى الوجود وتصوغها لنا بقوالب أدبية بديعة من خلال أسلوبها الجميل الذي يتضح منذ مقدمة القصة وحتى نهايتها، فضلاً عن تخلل النص السردي بجُمَل شعرية أنيقة.
ولعلنا لا نحيد عن الصواب إن قلنا إنَّ أحاديث بطلة الرواية عن القاصة قد جاءت كمحاولة من الروائية لإبعاد تُهَم المجتمع وإسقاطاته الظالمة التي يطبقها بحق كل فتاة أو امرأة مبدعة من خلال القراءة التلصصية.