الحركة الادريسية في اليمن
الادريسية حركة دينية صوفية تزعمها أحمد بن ادريس الذي جاء من القيروان في المغرب العربي إلى عسير وبدأ نشاطه السياسي تحت غطاء ديني متصوف في مدينة زبيد والمخا وموزع ثم ارتحل إلى “صبيا” حيث جعل منها مقرا لإقامته فيها ونشاط خلفائه واتباعه من بعده, وبدأ باتصالاته بالسفارة الايطالية حيث استخدمته ايطاليا لإشغال الإدارة العثمانية في اليمن في الوقت الذي كانت تعد العدة لغزو واحتلال “طرابلس المغرب” وقد وافق الادريسي بالمهمة المطلوبة منه أحسن قيام مستغلا مواقف الأئمة المتخاذلة أمام الإدارة العثمانية وسعيهم للحصول على مكاسب ذاتية وكذلك ظروف سخط الجماهير اليمنية على الاحتلال العثماني والبريطاني لليمن, وعدم الثقة بالأئمة مما وفر مناخا ملائما لنشاط الادريسي لإظهار اسم أسرته في عسير.
كما قام بالاتفاق السابق مع الايطاليين مستفيدا من إهمال العثمانيين لأكثر البلاد اليمنية عامة والمخلاف خاصة, حيث كانت انتفاضات القبائل وتمرداتها من الأمور المعتادة وصار الادريسي يبني هواه على هذه المقاييس عاقدا الاحلاف ومرتميا في أحضان الايطاليين والبريطانيين, منفذا سياستهم متصديا للوجود العثماني وللإمام يحيى حميد الدين من وجهة نظر السياسة الايطالية والبريطانية سواء قبل الحرب العالمية أم في خلالها وليصل فيما بعد الحرب به المطاف إلى الارتماء في أحضان السعوديين في نجد والحجاز مسلما لهم مناطق عسير مستغلا الظروف الموضوعية لليمن.
لم يكن للادريسي في عسير أي قيمة عسكرية في مطلع القرن العشرين إلا في نطاق ضيق وكان مؤملا أن يتمكن من تعطيل خطوط المواصلات العثمانية بين الحجاز ومناطق نفوذها في اليمن وأن يهدد مؤخرة العثمانيين إذا هاجموا عدن.
على أن فائدة الادريسي الكبرى للحلفاء برزت إبان الحرب العالمية الأولى والتي انحصرت في سيطرته على المنطقة الساحلية مما جعله يتمكن من الحيلولة دون استخدام العثمانيين لسواحل عسير الطويلة كقاعدة بحرية معادية لأساطيل الحلفاء في البحر الأحمر وأيضا برزت أهميته في خدمة الاطماع الاستعمارية البريطانية وفي تلبيته لدعوة البريطانيين لعقد تحالف معهم في 30/4/1915م والذي ينص على أساسه بأن يمده البريطانيون بالمال والسلاح لمحاربة العثمانيين وذلك لغرض إنهاء الوجود والنفوذ العثماني من اليمن.
كما دعمت بريطانيا تحركات الادريسي في تهامة بواسطة بعض قطع الأسطول البريطاني في البحر الأحمر.
ولم يكن هذا الموقف جديدا على الادريسي فقد تحالف في السابق مع الايطاليين أثناء احتلالهم “لطرابلس الغرب” بعد أن دعموه بالأسلحة والمال حتى شغل الأتراك عن استرداد “طرابلس الغرب”.
ولقد كان في الحرب العالمية الأولى خصم الأتراك اللدود والحليف الذي لا ينقض العهود للايطاليين حيث اخذ منهم السلاح ليستخدمه ضد عدوهم وعدوه من عثمانيين وأئمة, كما اخذ من الانجليز السلاح والمال أيضا ليستخدمه ضد أعدائهم ويخدم به الحلفاء في شبه الجزيرة العربية خدمة لا تشوبها شائبة.
وكان المحتلون البريطانيون ينظرون إلى تحالفهم مع الادريسي إلى جانب عملهم على إنهاء النفوذ العثماني في اليمن كإجراء وقائي ضد أية محاولات معادية يقوم بها الإمام يحيى صديق الأتراك ضد القوات البريطانية في الجنوب اليمني.
وهو الذي ظل مترقبا نتائج الحرب العالمية ليقطف ثمار اتفاقه مع العثمانيين ووقوفه إلى جانبهم والتوقف عن قيادة العمليات العسكرية ضدهم وهو ما كان منتظرا منهم.
وفي نفس الوقت كان الادريسي نشطا في مساندته للحلفاء وخصوصا بريطانيا، حيث هاجم مدينة اللحية في مايو سنة 1915م بالاسلحة التي زود بها من قبل الانجليز, في الوقت الذي قام فيه الأسطول البريطاني بضرب مدينة الحديدة والمخا والصليف واللحية وبعث بمزيد من العتاد العسكري للادريسي وطالبه بسرعة الهجوم برا وفي يونيو 1915م لم يستطع الأتراك استعادة الميناء من قبضة الادارسة حيث رابطت بعض القطع البحرية في البحر لمساندة الادريسي كما تم نقل القوات الادريسية إلى الأسطول البريطاني الذي نقلها إلى ميدي بعد ضربه بالمدافع من جديد.
وفي 22 يناير 1917م عادت بريطانيا فعقدت مع الادريسي معاهدة ثانية اعترفت فيها باستيلاء الادريسي على جزر فرسان التي احتلتها في يناير 1915م من أيدي الأتراك ثم قام بوضع اليد عليها واحتلالها وأصبحت كجزءاً من ممتلكاته ولأن بريطانيا كانت تعتبر الادريسي حليفا لها ولم تعتبره أميرا خاضعا لحمايتها كما هو الحال في المحميات الجنوبية فإنها أكدت في هذه الاتفاقية الأخيرة استقلاله في جميع الممتلكات الواقعة تحت يديه.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وبهزيمة تركيا في الحرب وبناء على اتفاقية موندروس الموقعة في 30/10/1918م, ووفقا للمادة السادسة عشرة من الاتفاقية القاضية باستسلام القوات العثمانية وإزالة الإدارة العثمانية في ولاياتها السابقة ومنها اليمن وسلم القائد العثماني سعيد باشا في لحج نفسه مع قواته للقوات البريطانية بعد أن صدرت إليه الأوامر بالاستسلام والرحيل بوسائط النقل البريطاني.
وبذلك استلم الادريسي كغيره من أمراء العرب جزءا مما يليه من البلاد كما أضيفت إليه تلك المواقع التي سلمت إليه من قبل البريطانيين.
فعندما احتل الانجليز الحديدة أوعز المعتمد البريطاني للادريسي فدخل مدينة الحديدة وباشر إدارتها وعلى إثرها انسحب الانجليز بحرا وكان ذلك في يناير 1921م وبهذا تمكنت قوات الادريسي من بسط نفوذها على الجزء الشمالي من تهامة وحتى الحديدة وبذلك ظل الادريسي رجل البريطانيين الوفي الذي لا يؤتمر إلا بأمرهم وحتى عندما وجه وجهه جنوب نجد والحجاز فبرضا ومباركة البريطانيين.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها حصل الشطر الشمالي من الوطن على استقلاله السياسي وعلى وجه الخصوص تلك الإنحاء التي تقع تحت نفوذ الإمام يحيى أو سلمت له في الوقت الذي شطر عن الشطر الشمالي المناطق الواقعة تحت نفوذ الادريسي والتي يحميها الأسطول البريطاني المرابط في البحر الأحمر، ففي هذا الظرف لم يكن بمقدور أي قوى سياسية فيما عدا الأئمة وبعد اتضاح سياسة الادريسي المرتبطة بالاستعمار البريطاني بأن تعلن نفسها القوة السياسية المؤهلة لإقامة دولة وطنية على الاراضي اليمنية المستقلة، فالأئمة على الرغم من المواقف الخيانية والمساومة من العثمانيين لم يرتبطوا بالاستعمار البريطاني المحتل للشطر الجنوبي بصورة مباشرة وإن كانوا يدعمون اتجاهات سياسته حينذاك إضافة إلى دعوة ومطالبة الإمام يحيى بتوحيد اليمن ومنها الأجزاء التي يحتلها البريطانيون جنوبا والتي يسيطر عليها الادريسي في عسير وتهامة شمالا كل هذا جعل مسألة إعلانه عن قيام المملكة المتوكلية اليمنية أمرا شبه مقبول وإن كان لم يخل من معارضة فالجماهير لم تنس بعد مواقفه السابقة مع العثمانيين وتخليه عن المطالب الشعبية في التحرير والجلاء وعدم تصديه للمخططات الاستعمارية البريطانية في اليمن.
سيسجل التاريخ أن عام 1918م تم فيه قيام نظام الإمامة المعاصر على أنقاض الاستعمار العثماني في الشمال ومرحلة جديدة من تاريخ الشعب اليمني المعاصر بحيث وضعت أمام الإمام يحيى، أمام النظام الجديد مهمتين رئيسيتين كهدف وطني عام وهو تصفية الادريسي المرتبط بالبريطانيين والحجازيين واستعادة الأجزاء اليمنية الواقعة تحت نفوذه وتحرير الأجزاء المحتلة من قبل بريطانيا في الجنوب اليمني وذلك في اتجاه توحيد الأرض اليمنية مما أدى إلى فشل وعجز النظام الإمامي في حل القضية الوطنية مما أدى إلى تفجره وإنهائه منها ابتداء من نشوء المعارضة وتطورها إلى حركة وطنية مناضلة ضد الإمامة في الشمال والاستعمار البريطاني في الجنوب حيث تجلى ذلك في خمسينيات القرن العشرين، ففي عهد حكم هذا الإمام ضاعت مناطق واسعة شمالا وجنوبا لتخلف سياسته الداخلية والخارجية وجبنه مما الحق باليمن هزيمة مذلة ومخزية.