
تقرير/ عارف الأتام –
المصطفى عمراني: لم تعد الصورة تسجيلا للحظة بل تجاوزت لتدخل في عملية الصياغة الذهنية ولعبة الحقيقة والزيف
من يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله فهي قادرة على فضح الحدث وصالحة لإخفاء حقائق كثيرة
إن التطور المعاصر للتكنولوجيا البصرية أدى إلى تحول في وظيفة الصورة باعتبارها تمثيلا وانعكاسا للواقع وتوثيقا بصريا للحظة زمنية ستاتيكية وجامدة إلى عملية اختزال الواقع في الصورة عبر جزئية معينة تكسر من خلالها مفهوم الحيادية والموضوعية والحقيقة ان الصورة المعاصرة لم تعد تمثيلا للواقع ولا انعكاسا له كما أنها لا تحتوي الواقع كله بل إنها جزء من هذا الواقع منظور إليه من زاوية محددة إيديولوجية أو سياسية أو مذهبية أو عرقية.
وينطلق المصطفى عمراني من عدد من الأسئلة التي جعلها مرتكزا لبحثه المعنون بـ” الخطاب الإعلامي وأطروحة موت الواقع ” هل الصورة الإعلامية باعتبارها تاريخا للحظة جامدة في الزمن أو لحظة متحركة في الحاضر هل هي خطاب محايد أم إنها خطاب غير برئ تحكمه مقصدية معينة¿ وكيف يمكن للصورة الإعلامية أن تلعب وظيفيا دورا مزدوجا أي باعتبارها وسيلة لكل أشكال الوضوح والتجلي والحقيقة من جهة … ومرتعا لكل تمظهرات الغموض والخفاء والزيف والالتباس من جهة أخرى …¿ هل صورة الواقع هي واقع الصورة ¿ أم أن ميلاد الصورة الإعلامية يبدأ بموت الواقع¿
ويوضح المصطفى في البحث المقدم لمؤتمر الإعلام والتحولات المجتمعية في الوطن العربي والذي نظمته كلية الإعلام – جامعة اليرموك – الأردن أن الصورة هي معرفة جزئية ونسبية بالواقع من حيث إن الصورة لا تنقل الواقع كله بل جزءا منه. وعملية النقل هذه تمر عبر مصفاة إيديولوجية معينة وكمثال على ذلك ما تحاول أن تروجه الصورة السينمائية التركية أو المكسيكية على وجه الخصوص من محاولة كل منهما إلى نقل الواقع لا كما هو وإنما كما تريد أن تبلغه الصورة وترسخه في ذهن المتلقي/ المشاهد º أو أنها تحاول أن تمارس عملية الانتقاء أو التركيز على جزئية من الواقع لا الواقع كله.
ويضيف أن ما تتناقله السينما التركية مثلا من تركيز على الوجه الإيجابي للواقع التركي (مناظر طبيعية خلابة بنايات عصرية آسرة أناس جذابون سيارات فاخرة…) هو في الحقيقة تركيز على جزئية من الواقع لا الواقع كله . وما يدعم هذا البعد الجزئي في الصورة اعتماد هذه الأخيرة على آلية التكرار أي تكرار نفس المناظر والشقق والأشخاص . وفي هذا تقزيم للواقع واختزال له بغية ترسيخه في ذهن المتلقي كما لو أنه هو الواقع كله ومن هنا يبدو أن تقليص عملية الإدراك من خلال تمثل المتلقي لهذا الجزء من الواقع باعتباره كلا هو ما يجعل السينما عموما تنجح لأن تكون بؤرة للتمويه والخداع والأسر من حيث إن ما تسوقه من صور إلى العالم الخارجي يجعل الآخر ينجذب إلى تركيا أوالمكسيك لا كواقع حقيقي وإنما كما تراهن عليه الصورة باعتباره واقعا مفترضا . وهنا يكمن البعد القصدي أو الإيديولوجي في الصورة … ويقول ريجيس دوبريه “إذا كان أساس السلطة هو الإقناع فإن الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله”.
وفي هذا السياق يقول Thibault-Lauran : ” إن الصورة هي أولا تكرار وقلب”(1) هي تكرار لأنها تعيد إنتاج الواقع بوصفه أصلا وهي قلب لأنها في ممارستها لأساليب التمويه والإيهام بالواقع تقوم بقلب هذا الواقع الأصل وإنتاج واقع جديد يتماشى ومقصدية الرسالة التي يراد تمريرها في رحم الصورة .
ويوضح عمراني: إن الصورة السينمائية تراهن على واقع آخر غير الواقع الحقيقي أي واقع صورة معينة لا صورة واقع بعينه. وفي هذا تمارس الصورة اللاحياد واللاموضوعية … من خلال اخضاعها لكل أشكال الحذف أو الإضافة والتحجيم أو التقليص وتسليط الضوء أو ممارسة التعمية… وفي كل ذلك جذب المتلقي (السائح المفترض) للتماهي مع واقع الصورة المروجة لا مع الصورة الحقيقية للواقع . وهذا مكمن الإيديولوجيا.
ويذهب المصطفى إلى القول بأن هذا التقطيع المقصود الذي تمارسه الصورة السينمائية للواقع هو نفسه وبدرجة كثيفة وعميقة المعمول به مع الصورة الإعلامية من حيث إن الخطاب الإعلامي المعاصر لا يعكس الواقع كما كان دوره في السابق وإنما أصبح الآن يسهم في عملية بنائه وتشكيله عبر عمليات إدراك إنتقائية وتقطيعية لهذا الواقع من منظور مغاير يتوافق مع الخط التحريري والسياسة العامة للمؤسسة الإعلامية إننا أمام تصور جديد وميثاق جديد تحاول عبره المؤسسة الإعلامية عبر خطابها أن تبرمه مع المتلقي من خلال محاولة إقناعه بصدقية الخبر أو الحدث الذي تعرضه أمامه باعتباره واقعا بنسخة منقحة ومعدلة فقد أسقطت الصورة الدور المحايد للمتلقي وأملت عليه مهمة أخرى ليصبح متفاعلا إذ لم تعد الصورة تسجيلا للحظة مرئية في مكان ما بل تجاوزت وظيفتها التقنية ودخلت في عملية الصياغة الذهنية ولعبة الحقيقة والزيف. فالصورة وإن باتت قادرة على فضح الحدث ولكنها صالحة أيضا للاستعمال من أجل إخفاء حقائق كثيرة حين تمارس فعلا ضديا. (2)
ويضيف عمراني: هذا ما أقرته تحديدا أبحاث جان بودريار JEAN Baudrillard المعاصرة من كون الصورة الإعلامية انتقلت من عصر المشهد / الحقيقة إلى عصر الصور المحاكية (عصر الحياة الرقمية). وأثناء هذا التحول تم قلب الواقع والحقيقة وإعلان عن موتهما وتم تعويضهما بكل أشكال وصور الزيف والمخادعة والتمويه. فالواقع الذي ينقله الإعلام ليس هو الواقع الحقيقي المباشر بل واقع آخر تمت معالجته وتحريره بحيث يكون أكثر واقعية من الواقع الحقيقي( ) ويعبر عنه بودريار بمصطلح الواقع المفرط أو الواقع الفائقHyperreality أو الواقع المصطنع. و يصف بودريار “الاصطناع” بكونه عملية توليد نماذج لا تحتفظ بأصل ولا تحيل إلى واقع حقيقي مخلوقة من خلايا مصغرة قادرة على افتراض الواقع لمرات غير متناهية لا يخضع لمقاييس أو إلى أية مرجعيات. حيث لم يعد هناك وجود لحقيقة أو مرجع بل فقط مكان لوجود الغموض الذي بدأ يغمر مبدأ الحقيقة. (3)
إنها إيذان بمرحلة جديدة ترمي بظلالها على أفقنا الوجودي حيث العالم انتقل من بنية تقليدية كان يهيمن عليها منطق الواقع إلى بنية تلف وجودنا المعاصر وهي بنية الافتراضي. (4) ففي ثقافة ما بعد الحداثة أصبحت الصور التي تعالج بواسطة التلفزيون أو السينما على سبيل المثال أكثر واقعية وجاذبية مقارنة بحياة الناس الحقيقية وفي بعض الأحيان لا تكن للواقع بأية صلة مثل شخصيات باربي وفلة وساندريلا إنها كائنات تلفزيونية بامتياز لا أصول لها في الواقع الحقيقي . ومع ذلك تبدو من خلال تعاطي الناس معها لاسيما فئة الأطفال أكثر واقعية من الواقع.
والافتراضي حسب تصور جان بودريار هو سلب للواقعي وإفراغ جذري لمحتوياته. لأن الواقع عندما ينتقل كمادة خام إلى مجال الافتراضي فإنه يوضع تحت رحمة عمليات الترميم والتجميل والإخراجُ. (5)
ويردف: إن الحدث مثلا لا ينقل على صورته الأصلية أبدا باعتباره مادة خاما بل ينقل بعد التحرير والتلوين حيث يخضع لكل العمليات التي تخضع لها الصورة الفتوغرافية في الغرفة السوداء أو عبر الشاشة الرقمية من تعديل وحذف وإضافة وقلب …. ومن ثمة تغدو الصورة وهي تبتعد عن تحقيق أي انعكاس للحدث تحقق حدثا جديدا بامتياز أو بتعبير بودريار أصلا قائما بذاته. هكذا أضحت الصورة تمارس فن صنع واقع آخر غير الواقع الفعلي حيث بإمكانها أن تبرز نظاما قمعيا وكأنه ديموقراطي. وبفضل الصورة يمكن أن نربح حملة انتخابية ونلحق الخسارة بالخصم. وبفضل الصورة يمكن أن نضخم من الإمكانيات البشرية والاقتصادية والعسكرية و نقلل من إمكانيات العدو. وبفضل الصورة يمكن أن نقيم الحجة وننقضها ونرفع الشخص ونحط من قدره ونزيد من قدسية المدنس ومن دنس المقدس (6) وبفضل الصورة يمكن أن نلغي الصراع أو نمارس عليه التعتيم ونقدم بدلا منه الوفاق والانسجام أو أن نبرز التناقض الطبقي على أنه تعددية وليبرالية…. وعليه فالحدث لا يتخذ قيمته انطلاقا من ذاته كواقع بل يمنح قيمته من عملية نقله وعرضه عبر الوسيط الإعلامي. وفي هذا الوضع ينطبق قول دوبريه عن أن “ما لا يظهر في التلفزيون لا وجود له” ويمكننا توضيح هذه المسألة بالمثال التالي: لنتخيل حدثاٍ كإضراب عمال إحدى الشركات أو اعتصام للعاطلين عن العمل فهذا من حيث المبدأ يعتبر حدثاٍ ولكن منطق وسائل الإعلام يقول غير هذا فقد يتم حجب هذا الحدث وتجاهله كأنه لم يكن فهو بهذا المنطق ليس حدثاٍ أو حدث عاطل وفارغ. ولكن حين يتم عرض هذا الحدث كخبر في جريدة أو إذاعة أو حين يتم تغطيته في نشرة أخبار تلفزيونية فإن هذا الحدث سيتخذ مسارات تأويلية بحسب التوجه الإيديولوجي الذي تريد المؤسسة الإعلامية أن ترسخه في ذهن المتلقي حيث يمكن عرض الحدث بعد المونتاج وتوظيب اللقطات بصورة تجعل المعتصمين معتدين ورجال الشرطة محاصرين أو مدافعين عن أنفسهم وعندئذ تأتي الصياغات الخبرية بهذه العناوين الرئيسية:
-الشرطة تنهي اعتصام المخربين
-هجوم أمني على مثيري الشغب
-الشرطة تضع حداٍ لفوضى الاعتصامات
أو أن التغطية الإعلامية تسمح بعرض هذا الحدث بصورة متعارضة مع السابق إذ يمكن توظيب الشريط بصورة تجعل رجال الشرطة المدججين بالأسلحة هم من يبدأ الاعتداء على المعتصمين بصورة سلمية وبدل التغطيات الخبرية السابقة يمكن أن تتصدر العناوين الرئيسية مثل:
-الشرطة تعتدي على اعتصام سلمي
-اعتصام سلمي ينتهي بالعنف .(7)
الهوامـش :
1- محمد بلاسم : الفن والعولمة
المصدر الموقع الالكتروني لمحمد بلاسم net. https://balasim
2- فؤاد إبراهيم : ثقافة الصورة.. التحدي والاستجابة
المصدر : مؤتمر فيلادلفيا الثاني عشر(ثقافة الصورة) 24-26 أبريل 2007.
www. Philadelphia. edu .jo/arts. conf/papers/ 3 .doc
3- سعد القصاب : تبديل الواقع برموز مفترضة المصدر : جريدة الشرق الأوسط الالكترونية 9 أكتوبر 2008 العدد: 10908.
4- رشيد لمهوي : عصر الافتراضي وأفول الواقع / الأوان مجلة الكترونية 2011.
5- جان بودريار. الفكر الجذري أطروحة موت الواقع ترجمة: منير الحجوجي وأحمد القصوار. الطبعة الأولى 2006 دار توبقال للنشر صفحة 39.
7- نادر كاظم : كيف تتحكم أجهزة الإعلام فينا¿ المصدر: البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال
7- نفسه