جنيف.. بداية مرحلة
تظن المملكة أن فرض هيمنتها على مؤتمر جنيف سيكون فاتحة انتصاراتها وهو ظن مخادع كالسراب الذي يلوح للظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا, ذلك, أن العدوان أحدث انقلابا في التصورات الذهنية وتغييرا جذريا في المفاهيم العامة وأصبح الإنسان اليمني بين ثنائيتين هما العميل والوطني, ولذلك فالذين في فنادق الرياض لا قيمة موضوعية لهم في الواقع وأصبح وجودهم في جنيف كالعدم وحين تسعى السعودية بالهبات والأموال الطائلة على الهيمنة على مؤتمر جنيف فإنها لا تدرك حقائق الواقع الموضوعية التي تشكلت في وجدان الجماهير اليمنية كنتيجة منطقية لعدوانها على اليمن واستهدافها لمقدراته الحضارية والثقافية والتاريخية.
لقد أصبح من الغباء الظن أن سيناريو القرن الماضي الذي قادته المملكة في اليمن يمكن أن يتكرر ذلك لأن مجمل العوامل لم تعد مساندة لتكراره فالمملكة في ذلك الزمن كانت في مرحلة اليفاع والشباب واليوم في منازل الكهولة كما أن المملكة لم تتدخل بصورة مباشرة بل كانت تدعم فصيلا بالمال والسلاح وكل اشتغالها كان سياسيا وإعلاميا ودبلوماسيا أما اليوم فقد لامست ألسنة اللهب والعدوان كل قلب وكل عين, واليمني كما هي طبيعته في حقب التاريخ المختلفة لا يمكنه التفريط في كرامته وعرضه وأرضه وإذا انتصر لرجل لن يتكركه إلا والتاج على رأسه وإذا قام على رجل لن يتركه إلا وقد استأصل شأفته وقد تعددت الرؤى والأقاويل في مآثر الإنسان اليمني وهي الآن تترجم نفسها في ميادين الشرف والقتال وتكتب تاريخها الجديد التي يشكل امتدادا للتاريخ القديم.
وبالاستناد إلى حقائق الواقع الموضوعية يمكن أن نقول أن مؤتمر جنيف لن يكون كمؤتمر الخرطوم الذي انعقد في بداية السبعينيات من القرن الماضي كما أن حركة التحكم بالمسار السياسي التي قادها الموالون للملكة في السبعينيات قد تغيرت كل عوامل استمرارها ومناخات بقائها وبالتالي فإن صالح الهديان الذي قاد حركة الاغتيالات والتصفيات في عقد السبعينيات في اليمن سيغير بوصلة الاتجاه إلى الشمال وبالتحديد ستكون المملكة هي مسرح ذلك الامتداد التاريخي وسنشهد في قابل الأيام واقعا جديدا في المملكة لن يكون امتدادا لماضيها بل سيكون متغايرا عنه ودالا على شيخوخة النظام وبداية تفككه وثمة رموز ودلالات تبعثها تموجات اللحظة الزمنية ذات الاشتغال في المجتمع السعودي وقد بدأت حالة التململ تفصح عن نفسها وبدأت الدول الأوروبية تستشعر حركة المجتمع النجدي والحجازي والعسيري وتدعو رعاياها إلى مغادرة المملكة وهي بذلك تقرأ المستقبل من خلال التحليل السياقي والتقاطعي لحركة المجتمع والتي تأتي عبر تقارير الأجهزة الاستخباراتية فالسعودية تجاوزت النقطة الفاصلة بين الاستقرار والإضطراب والخط الفاصل بين الأمن والخوف , ومع تصدع جدار القانون الطبيعي وسقوط المعنى والقيمة ستكون المملكة ونظام آل سعود في منازل العد العكسي ومنازل النقصان بعد أن أعلن عن اكتماله وطغى على ملامحة العامة .. الروح القارونية “التي تحدث عنها القرآن الكريم في بعض آياته , فالثراء هو الوهم الذي يتحول إلى سراب كاذب مخادع لا قيمة موضوعية حقيقية له وإن ظن الأثرياء ذلك وفي زمن العدوان الذي يقارب الأشهر الثلاثة ما يؤكد هذه الحقيقة فالعالم الذي يلوذ بالصمت ويغض الطرف عن جرائم الحرب ويترك السعودية تمارس طغيانها هو نفسه من سيعمل على تدمير هذا النظام السعودي الرجعي المتخلف وجينئذ لا تنفع الأموال والهبات ولا أسباب الثراء وأدواته في استمرار نظام آل سعود وإن توهموا اليوم القدرة والهيمنة ومارسوا غواياتهم في اليمن بكل ذلك التوحش والتدمير والقتل والإبادة.
وكما كان مؤتمر الخرطوم في عقد السبعينيات بداية مرحلة فإن مؤتمر جنيف سيكون بداية مرحلة جديدة في اليمن وفي السعودية على حد سواء في اليمن من حيث البزوغ والسيطرة على مقاليد المستقبل وفي السعودية من حيث الغروب والتفكك وبداية التلاشي الاضحلال إلى درجة يقظة الهويات المحلية المتعددة.
وسواء نجح مؤتمر جنيف أو فشل حسب التقديرات الأولية لفشله ومؤشراتها التي تبرز على السطح إلا أن اليقين الذي يمكننا التصريح به هو أن الحرب قد بلغت ذروتها وستضع أوزارها خلال هذا الشهر الذي نحن فيه وستخرج اليمن من تحت الركام والأنقاض أقوى وأشد بأسا من ذي قبل وستكون السعودية ونظامها على وعد جديد مع حالة جديدة لن تستقر فيها, فسنن التدافع ستبلغ ذروة كمالها كما أن التاريخ سيعيد ترتيب الأهداف الجديدة والجغرافيا الجديدة وستبلغ حكمة الله في دفع الفساد عن الناس ذروة كمالها خلال ما تبقى من عامنا هذا وسوف تتضح الصورة في مطلع العام التالي.