حين يرثي المثقف ذاته..
• فايز محيي الدين البخاري

هذا العمل الذي بين أيدينا أسماه مؤلفه رواية فيما المتصفح له يجده مفتقرا للكثير من تقنيات العمل الروائي والتي سنبينها لاحقا. وهنا سنبدأ بالإشارة إلى ما تضمنه هذا العمل الذي يصح بعد تشذيبه أنú نطلöق عليه قصة فهو أقرب إليها منه إلى الرواية وإنú اعتورته الكثير من الاستطرادات خارج سياق بناء الحكي القصصي والسرد الروائي. وهذه القصة تدور أحداثها حول الشخصية الرئيسية وهو (العزي) الصحفي المثقف الذي عانى الكثير في عمله الصحفي بصنعاء وغرف الإيجار والبحث عن حق القات والأكل والمبيت في الفنادق واضطراره لإراقة ماء وجهه عند أصحاب قريته من العمال وصغار التجار لتوفير أهم حاجياته. ثم تحكي أحداث عودة (العزي) للقرية بعد أنú أصبح صحفيا مشهورا ويظهر في القنوات التلفزيونية دون أنú يحقق من خلال تلك الشهرة أي مردود مادي يكفيه لشراء حتى دراجة نارية أو تكوين أسرة كما يجب. فعاد للقرية يحمل خيباته فيما أهل القرية لا يعرفون أن تلك الشهرة لا تغني ولا تسمöن من جوع في مجتمع لا يعترف إلا بالأقوى والأقوى في نظرöهö دائما هو من يمتلك المال. حاول محمود ياسين من خلال هذه الشخصية تجسيد حالة المثقف المبدع ومعاناته الدائمة التي تتمثل في التشظي بين ذاته المتعالية والسامية التي تحب أنú يسير الكون على الطريق القويم وفي المسار الصحيح كما يرسمه عالم المثل والمدينة الفاضلة وبين ذاته التي تجلده ليل نهار في محاولة منها لإطلاق سراحه مöن قيود المثل والارتماء في أحضان العالم الذي يبرöر فعل أي شيء في سبيل تحقيق الحياة المعيشية المرموقة والاستقرار المادي الذي لا يجعلك تحتاج لأحد. وبين هاتين الذاتين عاش (العزي) مرتبكا لم يصل إلى نتيجة. فلا هو حقق أمانيه في عمله الصحفي والأدبي ورضي به ولا هو استطاع أنú يكون الآخر الذي يدوس على كل قوانين الكون والقيم والمثل ويحقق الكسب المادي الذي يجبöر المجتمع على احترامه والعمل لأجله ألف حساب. لقد جسد محمود ياسين المثقف الانتهازي في كثير من أحداث القصة وعرى وكشف زيف الكثيرين ممن يمشون على نفس المنوال في المشهد الأدبي والثقافي الملموس وبالذات الكتاب والصحفيين. ومن هنا نستطيع القول أن الفكرة الأساس أو مهيمنة النص التي يمكننا أن نجعل منها الرابط لكل فصول هذا العمل الأدبي هي تعرية زيف المثقف ورثاء الذات. تلك الذات التي منيت بالخيبات على الصعيدين العملي والعاطفي. وذلك يتضح من بداية الفصل الأول – إذا جاز لنا أنú نطلöق على كل مجموعة صفحات كان يعنونها الكاتب برقم أنها فصل- حين كان يضطر للاستدانة مöن حارس الصحيفة ومدحه بما ليس فيه وهنا يعرöي الكاتب شخصية المثقفö والصحفي الانتهازي. كما سيحصل في آخر الرواية/القصة حين يلجأ لمداهنة زميله العسكري عبدالرحيم الذي دخل في التجارة غير المشروعة وأصبح له شأن في الجيش والعمل الحر. والجميل في هذا السياق أن الناشر نفسه يشير لذلك في الغلاف الأخير حين يقول أنها تحاول أنú تعري الذات والحقيقة في زمن الخيانة والخذلان. لقد أغرق الكاتب وأسهب في الحديث عن أشياء يرغبها أو ينتقدها والاستشهاد عليها بقراءاته الأجنبية والإكثار من ذكر أسماء الكتاب الأجانب وأعمالهم مما أفسد الجو الروائي للرواية/القصة. فكانت تبدو أحاديثه الذاتية في الغالب ككتابة صحفية محضة. فلا هو التزم السرد ولا اعتنى بالوصف الروائي ولا تمثل المونولوج الدرامي الذي يعزöز من متانة العمل الروائي فجاء العمل باهتا مفكك الأوصال لا تستطيع أنú تطلöق عليه رواية بالمعنى الحرفي. ومöن العجيب أنه يعترöف بذلك في الفصل الأخير من الرواية/القصة بكل صراحة حين تحدث من صفحة (110 إلى 116) عن رغبة (العزي) بعمل روائي حقيقي يستوعب كل شخصيات أصدقائه وحكاياتهم ويسهöب في شرح تفاصيل حياتهم الدقيقة دون الخوف من التحوير في الأسماء خشية الرقيب المجتمعي. وكذلك في المقارنة بين ما كان يود سرده في تفاصيل قريته على منوال ماركيز – وماركيز هذا لم يستطع ياسين الفكاك منه طوال القصة هو وباولو كويلهو – وهذا ربما هو السبب الذي جعل هذه القصة تبدو بهذا الشكل الركيك متفكك الأوصال كثير النتوءات والندبات. فهي لم تحمل فكرة أساسية يتم من خلال السرد معالجتها وكشفها للمتلقي أو حتى توضيح خلل مجتمعي يجب معالجته أو سرد ذاتي يحمل الطابع الحكائي الذي يكسöب المتلقي متعة وينقل له دقائق حياة أديب أو كاتب ما في زمن محدد ومكان معروف وشخصيات ثابتة. ولكن كما يقال: فلا ذا تأتى ولا ذا حصل! ولعله – وبلا شعور حين يرثي حاله – قد أكثر الاستشهاد بروائيين أجانب كثيري البؤس في حياتهم ليقول: ها أنا ذا على دربöكم أسير! ومما يدعöم مهيمنة النص هو ما جاء في