الحياة والجمال

كان ما يطلق عليه عالم الجمال محصورا في السابق ببعض أصحاب الامتيازات من العارفين بخفاياه. أما اليوم فالصورة تغيرت تماما حيث أصبح العالم الذي يحيط بنا مشبعا بالصور والموسيقى وكل المظاهر الفنية والثقافية التي هي بمتناول الجميع ومن دون استثناء تقريبا.
إن الجمال يحيط بنا هذا ما يؤكده الكاتب الفرنسي لوران جيني الذي أمضى عقودا طويلة في البحث عن المسائل الجمالية ومدى تفاعلها مع حياة البشر. وبعد أن قدم سلسلة من الدراسات والكتب عن الجمال وعالمه يكرس كتابه الأخير لما يسميه «الحياة الجمالية» كما يقول عنوانه.
من المسائل الجوهرية التي يؤكدها مؤلف هذا الكتاب في بحثه عن «الحياة الجمالية» وما يمكن أن تعنيه في حياة البشر هو أن الجمال يمكنه أن يسهم في امتلاك رؤية متجددة للعالم. وهو يستعرض في هذا الصدد على مدى العديد من الصفحات الآراء وما يمكن أن يعني الشهادات على حد تعبيره التي قدمها مفكرون ومبدعون مثل: جان بول سارتر ومارسيل بروست وستاندال وغيرهم.
الموضوع الأساسي الذي يناقشه المؤلف هو علاقة البشر بالفن. ذلك بالتحديد من خلال دراسة «الآثار التي تتركها الأعمال الفنية في حياتنا الذهنية ومدى تأثيرها في رؤيتنا للعالم ومفهومنا له وكيفية فهمه» كما نقرأ ويشير بأشكال مختلفة إلى أن الجمال الذي يحيط بنا يمكن اكتشافه بكثير من البساطة.
وهو يبدأ كتابه بتوصيف تلك المشاعر التي تكاد تقارب أن تكون حلما جميلا والتي بعثها في داخله النظر عبر نافذة حافلة إلى مشاهد الطبيعة في توسكانيا بإيطاليا التي كان يزورها. وتوصيف الكثير من المشاهد الأخرى التي جذبه جمالها والتي قد لا تثير أي فضول لدى الآخرين.
ويتحدث المؤلف كثيرا في هذا الكتاب عن الأسفار. أسفاره هو حيث أمضى فترة من حياته في الولايات المتحدة الأميركية. ولكن أيضا أسفار الكثير من المبدعين والكتاب. ويشرح أن هناك جذرا مشتركا بين السفر والحس الجمالي هو أنهما يغيران كلاهما المشهد المألوف بالمعنى الواسع. ذلك أن الأعمال الفنية تأخذنا أحيانا إلى ثقافات غريبة أو إلى حقب تاريخية سابقة. والأسفار تنعش باستمرار حالة من الإحساس بما هو جديد من المشاهد ومن أنماط الحياة.
ويشير أن أحد مظاهر عبقرية مارسيل بروست مؤلف العمل الشهير الذي يحمل عنوان «بحث عن الزمن الضائع» يكمن في أنه رأى العالم بعين الفنان. ويشرح في مثل هذا السياق ما تعنيه اللحظة الشعرية لدى شعراء ومبدعين من أمثال شارل بودلير صاحب أحد أشهر دواوين الشعر الفرنسي بل العالمي الذي يحمل عنوان «أزهار الشر». كذلك يذكر المؤلف في هذا السياق تلك الرحلة التي قام بها إلى الهند كي يكتشف ماذا يعني استخدام الموسيقى كـ«مصدر للطاقة».
إن مؤلف الكتاب يحاول أن يضع الجمال فيما يمثله من عمق على مستوى الزمن بمواجهة «ما هو لحظي وعابر» في زمن الإنترنت. وهو يستخدم في هذه المواجهة أبسط كنوز الطبيعة مثل ذلك الماء الرقراق الذي ينساب من بين الصخور ويعطي إحساسا عميقا للزمن.
ويشير إلى أشكال عدة يتبدى فيها الفن في الحياة اليومية للبشر عبر وجه نتعرف فيه إلى أحد الفنانين أو عبر عيش «لحظة شعرية» أو من خلال أحاسيس تبعثها في أعماقنا «نفحة من الموسيقى» بتعبير آخر يحرص المؤلف على أن يبقى في حضرة الأدب بحيث يكون هناك باستمرار هامش كبير للإبداع.
المؤلف في سطور
 لوران جيني من مواليد مدينة باريس ويعمل أستاذا للأدب الفرنسي ولعلم الجمال في جامعة جنيف السويسرية كاتب وروائي سبق له وقدم العديد من الكتابات في مجالي علم الجمال والإيديولوجيات الأدبية. من مؤلفاته: «الكلام المتفرد» «نهاية الحياة الداخلية» وله رواية بعنوان «فصل مضطرب».

قد يعجبك ايضا