البردوني .. حضور يدافع عن غيابنا وغبائنا

بشير المصقري


بشير المصقري –
حتى قوقل حين نكتب فيه كمحرك بحث عبدالله البردوني يقذفنا بصور شتى للرجل تظهر بداية ثلاث صور ترمي لعناتها في وجوهنا وهي شاخصة بإمتعاظ يزدري المؤسسات الثقافية والأدبية في اليمن وبسخرية واستهجان , فالصورة الأولى لضريح الشاعر الكبير في خزيمة والثانية للمكتبة المسماه باسمه في مدينة ذمار فيما الثالثة لأطلال المنزل الذي احتضن سقوطه الأول على قارعة الحياة وأصيب بين جدارنه بالعمى جراء الجدري الذي كان حينها منتشرا في اليمن ومنها قريته البردون في الحدا .
والثلاثة الأماكن تمثل الوفاة والمولد والمسيرة العظيمة التي تمخضت مبنى لمؤسسة ثقافية في قلب ذمار وتتبع الهيئة العامة للكتاب وبصرف النظر عن مئات الصور الأخرى للبردوني ومايتعلق به يظل هذا الشاعر المختلف والمتفرد وطن .. يقص حكاية وطن في هامشه حطام وفوضى وشعب دائخ في سكرات الحياة .. الحياة التي لم تنصف عظماء البلد وهو على رأسهم متمثلا فكرة استعصت على التجهيل واللامبالاة وقاومت الإجحاف والدأب المقيت على النسيان فحين نتحدث عنه نغرق في أسى تفاصيل قضايا مؤرقة مثل الخلاف بين الورثة وهي الحجة التي اعاقت طباعة اعماله الشعرية والنثرية غير المطبوعة وقلق من لديه ضمير حيال بقاء هذا الإرث المخفي والمسجى في دهاليز الخوف من أي محاولة لتشويه موقفه و تلطيخ أراه وطعنها بخناجر التبديل والتأويل إضافة إلى استمرار الوعود الرسمية المضنية لإنجاز تحويل منزله إلى متحف يضم مقتنياته و أغراضه ومع كل ذكرى لرحيله تنكشف أثافي تبعث الحزن وتستجلب الكأبة كان تسمع من مقربين له بإختفاء شئ وبيع شئ والعبث بشئ وتلف شيء وضياع شيء من حاجياته بمقابل حركات وتحركات لبعض المثقفين تنشط في أغسطس من كل عام وتثير زوابع أغلبها من قبيل المزايدة دون أدنى استشعار لمعنى ان أهم من أنجبته البلد لا يليق بنا أن نجعله مطية وعذر للإقتصاص من مؤسسة أو شخصية أو كيان ليس لإنها قصرت في حقه واهانتنا جميعا كيمنيين بل لموقف آخر ظاهره البردوني وباطنه نكايات ليس إلا .
لقد دافع البردوني عن كل الكائنات من بشر وشجر وحجر من منطلق دفاعه عن المبادئ والثوابت والعدالة والقيم النبيلة بمجرد رفضه للتفريخ ومحاولات توجيه افكاره لخدمة سلطة أو حزب كما قاوم ونجح في إفشال كل المساعي استمالته سياسيا فدخل منزلة في الجامع الكبير بصنعاء وعاش فيها بدلا عن دخول حزب و ارتدى القميص المنتف كخيار على ارتداء معطفا إيديولوجيا وأذكر أنني أتذكر ذلك كلما مررت جوار خزيمة وأدرك أن ابن نخلة مازال ينتصر لقناعاته ويدافع عن سيرته باستماته حتى وهو نائم تحت ثرى المقبرة التي يخلد ويتخلد فيها منذ عقد ونصف مع الأخذ في الاعتبار أنها فترة غياب لم تمر طوال سبعة عقود من الحضور بدون صمت فقد اصدر خلالها اعمال شعرية وسردية كثيرة وهنا يمكنني القول أن خزيمة ورثت مهمة تكريس الوجود العظيم والأسطوري ولذلك كانت هي الصورة الأولى الناتجة قوقل ظهورا
في زيارتي الأخيرة لضريحه كنت بمعية القاص هشام محمد والكاتب محمد اللطيفي على هامش مشاركتنا في تشييع الشاعر اسماعيل الوريث إلى مثواه الأخير في المقبرة ذاتها وهناك وقفنا جوار الضريح الناطق شعرا بلسان البردوني يجرجرنا الصمت إلى أرذل الحرج فيكسره هشام محمد بالقول أتيناك بإسماعيل الوريث يا سيدي فيما ظل محمد اللطيفي صامتا ووجوما تنتابه الدهشة وتجتره الرهبة وتعلقة حيرة الوصف والتوصيف كأن البردوني سيسمع الأحفاد المقهورين والرعيل الجديد من الأدباء المستلبين .. لنقرر المغادرة وعند باب المقبرة تحدثنا عنه فالتقطت عباراتنا امرأة تبيع الورد للداخلين بغرض زيارة ذويهم واصدقائهم من الموتى كانت قد فقهت بأننا زرنا ضريح البردوني لتصادنا بشباك قولها لماذا لا يشتري أحد باقة ورد للبردوني وهنا تعاظم احساسنا بالعار وحضرني لحظتها بيت من قصيدتة “لا تسألي ” الواردة في ديوان ” في طريق الفجر ” لم أجد بدا من اطلاقه في وجه المرأة:
لا تسألي يا أخت أين مجالي¿ أنا في الترابö وفي السماءö خيالي
فرد اللطيفي على حماقة تبريري لموقفنا قائلا :
لقد أنقذك البردوني .. ثم استطرد موجها عبارة للمثقفين والأدباء .. أيها الأغبياء مازال البردوني حاضرا يدافع عن غبائكم وغيابكم .

قد يعجبك ايضا