فصل من القرية

جمال حسن


 - أكثر ما يثير إزعاجي هو اختفاء كل شكل احتفالي يواكب المناسبات على سبيل المثل العيد. في الأسواق يمكن رؤية الناس أمام سيل من المعروضات متجهمين تنفخ عيونهم الرغبة
أكثر ما يثير إزعاجي هو اختفاء كل شكل احتفالي يواكب المناسبات على سبيل المثل العيد. في الأسواق يمكن رؤية الناس أمام سيل من المعروضات متجهمين تنفخ عيونهم الرغبة وتكبلهم الهموم. طغت العادات الاستهلاكية في العيد على الجماليات البسيطة للاحتفاء. فالمدن خاوية من الفضاءات والنفوس كذلك مات استعدادها الاحتفالي.
هل هو الفقر. هناك مجتمعات أفقر لكن لديها حسا احتفاليا رائعا. دول الخليج غنية بسبب النفط بينما تفتقر ثقافة الحياة. هناك تقاليد تكبح حس المرح هكذا تتشكل المجتمعات المنغلقة. قبل العيد بيوم قال لي سائق تاكسي لم يعد هناك فرح الناس مكبوتون. كل عام يتكرر السؤال: لماذا اليمني بلا فرحا. بالنسبة لي أعتقد أن هيمنة الخطاب الديني المتشدد كرس نفسه بعادات مبتذلة لاستعراض طقوس مغالية على حساب بساطة الحياة حتى تلك العادات الدينية البسيطة المتسمة بالتسامح المجتمعي ذابت. وأصبح التشدد المجتمعي تقليدا. اليمني ينظر لما يفعله جاره في العادة ويجاريه. أنهم مقتنعون بما يقوم الجميع به بالطبع هناك متشددون لكنها السمة البارزة للمجتمع. لننظر كيف تم تدمير القرية بزحف التطرف هناك صارت الطفلات يرتدين الخمار. بينما كان أبناء القرية يعرفون بعضهم كعائلة واحدة. مؤخرا قتل رجل أحد أبناء قريته لأنه أشار إلى أن لزوجته “شامة” في خدها مثل فنانة ظهرت بالتلفاز. بالتأكيد رآها بدون عمد وسرعان ما توارت هاربة حين رأته في بيتها. في السابق كان الجميع يعرفون وجوه كل نساء القرية. والتطرف نسف الحس الاحتفائي نسف كثيرا من الجماليات المجتمعية بتجهمه وعبوس محرماته.
في طفولتي مثلت لي القرية كل العيد. الذهاب باكرا لصلاة العيد في المسجد. وفي طريقنا تتشكل جوقة الكل يصيح بترنيمة واحدة “الله أكبر.. الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا……” كان الشكل الديني للاحتفال مطبوعا بغلاف جمعي. حدثني أبي عن طفولته. بما أن قرانا موزعة وتتجمع صلاتهم في مسجد منطقتنا الذي يعود تاريخ بنائه لأكثر من ألف عام (قبل أن يختفي بسبب خطأ أن بناء مسجد جديد مكانه عمل خير) ستحل في عفوية المجتمع صورة التشدد الديني وموانعه. كان الجميع يحرص على صلاة العيد حتى أولئك الذين لا يصلون الفروض الأساسية باعتباره احتفالا دينيا لا يخلو من بعض الفرائحية.
كان سكان كل قرية يتجمعون في العيد يتقدمهم “العدل” وفي الأمام يضرب أحدهم على الطبل ينشد الجميع وراءه مدائح دينية كانت الأفواج الصغيرة تلتقي أصواتها تتلاحق يأتي فوج ويلحقه آخر تتقدمهم “المرافع” أي الطبول إذ تربط بحزام على عنق الضارب. مازال أبي يتذكر علي قاسم عندما يظهر في مقدمة أبناء قريته على رأسه المشقر.
مازلت أتذكر أنا كيف يذهب سكان القرية للصلاة وهم يكبرون. تأتي بهم ندوب الطرق المتعرجة على الاكمات والحقول. يلتقون يتوقف بعضهم للسلام بينما هناك أصوات أخرى تكون قريبة أو متباعدة. أصوات مختلفة تطرق الآذان وتنثر الطريق برداء احتفالي وإن بطابع ديني معظم احتفالات البشر ذات جذور دينية عندما ينتهي أولئك من السلام يستأنفون تكبيرهم. هناك من يتوقف لتحية شخص من بعيد ليخبر رفيقه بشيء يعايدون بعضهم قد يتوقف آخر لرد نداء من وراء أجمة أو حقل لينتظر شخصا يحاول لحاقه بخطوات سريعة كان ينادي لكنه أيضا يهرول وهو يردد مع الجوقة. يستأنفون الصورة العفوية للعيد يواصلون سيرهم وهم يكبرون. يمكن تمييز الأصوات من بعيد رسم بعض الشخوص الخافية عن العيان إذ الأذن ترى.
البعض تتباهى ضحكته بأسنان ذهبية. النساء لا يرددن التكبيرة. هل هو الحياء أو العادات لا تسمح لكن أصواتهن تتداعى. ربما تنادي تلك شخصا في الطريق. تصافح الرجل بسحب أيادي بعض وتبادل تقبيلها تتكرر العملية مرات بتبادل تقبيل الأيادي كحفاوة لكنه في الواقع واجب. تتشابه تحية الرجال والنساء. حتى أولئك الذين يرتدون الأسمال يشاركون البهجة.
لم تكن هناك رقصات. إنما شكل احتفائي بسيط. ثمة إيقاع. أفواج مزخرفة بالطبول. الأردية الاعتيادية ثوب أبيض يمكن أن يكون مستعملا تفسخ لونه بغبرة أسمال لا تجعل ذلك الشخص المشظفة إقدامه غريب. يندر أن يكون هناك رجل بلا شقوق في قدمه أو حتى امرأة بؤس الحياة كذلك ينعكس.
الرؤوس تتزين بعمامات في الأغلب بيضاء أو دهنية. قليلون يرتدون عمامات ملونة خضراء أو حمراء أو حتى زرقاء… البعض يطرح الشال من وراء كتفه بهيئة مثلث ويسقط كمخروطين بجانب ذراعيه. يعتقد الكبار أن شعورهم لا يجب كشفها فتتخفى بالعمائم وتبرز عند الصدغين أقراط الشعر المجعد.
تسقط النس

قد يعجبك ايضا