الضوء.. مسارات الفن!!

المقالح عبد الكريم


-1-
بحلول خريف العام 1839م دخلت البشرية منعطفا جديدا مغايرا سيعمل على تغيير الكثير من مسارات الحضارة الإنسانية.. بل إن هذا التاريخ أعاد رسم خارطة العالم وللأبد.. إنه اختراع آخر.. هذه المرة كان صغير الحجم لكنه عظيم الإبهار.. تماما كما لو أن مارد علاء الدين خرج من قمقمه إنها.. الكاميرا.
وذاك.. كان خريفا مشهورا.. ففيه انفجر الإعلان الكبير عن النجاح المدوي لسلسلة تجارب متتالية نتج عنها تحقيق إنجاز علمي هام هو: نجاح عملية التصوير الشمسي.
أما ما أعقب ذلك الحدث “الكوني” فكان فوق حدود التصور.

-2-
إذن آلة للتصوير.. وهذا كان يعني الكثير:
أولا: السرعة في إنجاز كم لا محدود من الصور.
ثانيا: الدقة والحيادية في نقل صور البشر والمناظر بأقل قدر من تدخل عواطف المصور.
ثالثا: دخول مفهوم الرسم في اتجاه جديد.. إضافة إلى انقلاب مفاهيم الفن التشكيلي وتعدد مدارسه.
رابعا: احتدام التنافس الاستعماري بين الدول العظمى.. لحد عملت المطامع في توسيع نطاق المستعمرات إلى احتلال الجزائر عدن الاسكندرية.
خامسا: “وهو موضوعنا هنا” دخول التوثيق طورا جديدا وهاما بحيث امتازت الوثيقة/ الصورة بما يلي:
1- واضحة التفاصيل.
2- دقيقة التوصيل.
3- إنجاز كمية لا محدودة من اللقطات في زمن قياسي.
4- المطابقة الحقيقية للموضوع/ المادة المنقولة في الصورة.. لعدم تدخل عواطف المصور في الموضوع.
5- عدم التفاوت بين اللقطات المنجزة لمشهد واحد لعدم الاعتماد على مهارة الرسام الفنية في نقل تفاصيل الموضوع المصور.

-3-
إننا نرى عند بعد ونسمع عن قرب.. ويتميز البصر عن بقية الحواس لإمكانياته في إكسابنا الكثير من المعارف.. لذا فإن الصورة – حسب موهو – اقتصادية.. (لأنها توجز التفاسير وتختصر البراهين.. فهي تقنع بأقل كلفة) أما الوجود داخل الصورة فمعناه (البقاء في مداها الزمني الممتد والمجهول) كون الصورة في محصلتها الأخيرة كما يرى الباز هي الإمساك بشيء وتثبيته على قطعة ورق.. سواء كان لحظة نادرة أو حائطا قديما.. (فأمام سطوة الزمن – الذي يزيل الأشياء – لا تجد الذاكرة تعويذة أفضل من الصورة).
ومن بين جميع أنواع/ موضوعات الصورة الفوتوغرافية.. تأتي الصورة التذكارية في المرتبة الأولى.. إنها الماضي بكل ما كان وما حدث فيه.. وهي في حضورها أكثر قوة من الذكرى الخيالية التي تشحب وتضعف خيوطها في ذهن الإنسان نتيجة سطوة الشيخوخة.. إن الصورة – خاصة القديمة منها – آلة زمن لا تكتفي بنقل الإنسان إلى زمكانية تفاصيل المشهد.. بل إنها تعمل على إعادة إدخاله في طي لفائف ما كان حينها.. أي العيش ثانية مع الأحداث.. إضافة إلى تنشيط ذاكرة المتلقي في مستويين مختلفين الأول: قديم والثاني: مستقبلي..
بمعنى إعادة تمثيل ما كان ومن اتصل بشخوص أو مكان المنظر المصور.. وتاليا ما أسفر عن ذلك كله – موضوع الصورة وما سبقها – من علاقات إنسانية جديدة أو متجددة وما انضاف من أماكن.
من هذا كله يتبدى لنا بوضوح مدى أهمية الصور القديمة أو التذكارية.. فهي تلعب دور تمديد للحياة.. كونها – حسب موهو – سليلة الحنين.. إضافة إلى أن (النظر ليس طريقة للتلقي.. بل هو ترتيب للمرئي.. لأن الصورة تمتح معناها من النظرة.. كما يمتح المكتوب معناه من القراءة.. فالصورة فائض الفكرة).
ولعل هذه الميزة تفسر لنا مدى اهتمام الإنسان – أينما كان – بالصور القديمة.. سواء من حيث الاحتفاظ بها أو طلبها.. الأمر الذي قاد إلى دخول هذا النوع من الصور في قائمة أكثر المتطلبات الإنسانية ارتفاعا في الأسعار تحت سقف أكبر قاعات المزادات في العالم.. كما جرى في مزاد علني في صالة “سوثبي بلجرافيا” في لندن.. حيث تم بيع ألبوم صور “بورتريه” تقليدي عمره مائة عام – كانت قد صورته جوليا كاميرون – بمبلغ 130 ألف جنيه استرليني.. أما أحد هواة التصوير الفوتوغرافي كما تضيف غادة السمان- وهو اورنولد كرين فقد دفع 35 ألف جنيه استرليني ثمنا لصورة واحدة هي صورة الكاتب “ادغار آلن بو” الملتقطة له عام 1848م).
ولعل هذا الولع والجنون بالصور القديمة لا يدهشنا أبدا لإدراكنا التام أن الصورة كلما ازداد عمرها زادت قيمتها الفنية والتاريخية وبالتالي ارتفاع سعرها.. ومن هنا يتضح لنا كيف أن تثمين الصور القديمة.. يجعلنا ندرك أكثر (كيف تصبح الصورة إحدى قنوات الاتصال الرئيسية مع الماضي) – الباز.

إحالات
1 – عبدالرحمن منيف: التاريخ من خلال الصورة
– كتابه: رحلة ضوء – الطبعة الأولى 2001م.
– المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت
– المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع/ الدار البيضاء.
2 – لحسن موهو: في البدء كانت الصورة – جريدة الفنون – عدد 22 – اكتوبر 2002م

قد يعجبك ايضا