الفلاح الذي حمل السعادة لمليار إنسان
وجدي الأهدل
يوم إعلان فوز الروائي الصيني مو يان بجائزة نوبل للأدب في الحادي عشر من أكتوبر 2012 ذهبت في المساء إلى منطقة التحرير (قلب صنعاء) للقاء الأصدقاء في المقهى حيث رأيت للمرة الأولى أعدادا غفيرة من الصينيين موزعين في جماعات يحتفلون بنجاح ابن بلدهم وعلى سيماهم الابتهاج والسعادة بهذا المنجز التاريخي الكبير للأدب الصيني الحديث. كانوا عمالا منعزلين في مساكنهم الخاصة ولا ينزلون مطلقا لأحياء المدينة ولكن بدا أن الإدارة الصينية التي تبني عدة منشآت ضخمة في العاصمة قد منحتú عمالها إجازة بقية اليوم للاحتفال بنوبل الأدب التي طرقت أخيرا أبواب الصين. كان هذا اليوم الوحيد الذي رأيت فيه ذلك العدد الكبير من الصينيين يجولون في شوارعنا.
لذلك شعرت بفضول شديد لقراءة أعمال هذا الكاتب الذي منح أكثر من مليار إنسان لحظات لا تقدر بثمن من الفرح والاعتزاز بالمشاعر القومية ورغم كل الحديث عن مشاريع الترجمة إلى اللغة العربية فإن الفجوة ما تزال كبيرة جدا وقد أظهر فوز مو يان بجائزة نوبل للأدب مثلا جهلنا التام بالأدب الصيني وقس على ذلك آداب شعوب كثيرة لا نعلم عنها شيئا.
لم أكن أحمل توقعات إيجابية عن المستوى الأدبي للروائي الصيني مو يان لكن قراءة روايته “التغيير”(ترجمة زينة إدريس الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2013) بددت هذه التصورات المسبقة الخاطئة وظهر أنه روائي متمكن من حرفته ولديه أسلوب أدبي سلس وعذب ويحمل بصماته الخاصة. وهذا العمل الذي نتحدث عنه هو رواية أراد الكاتب إخراجه في قالب سيرة ذاتية وهكذا ضمن لنفسه مقدارا عاليا من التشويق والفضول للتلصص على عالم الكاتب أولا وثانيا التخفف من التصنيع المحكم للحبكة. ومباشرة يدخلنا مو يان إلى نمط حياة الصينيين في منتصف القرن الماضي يجعلنا نحس ونشعر بوطأة نظام شمولي جبار لا يترك أمام الفرد المسحوق إلا القليل جدا من الخيارات في الحياة الكريمة. كما نلمس شظف العيش والفقر المدقع الذي أحدق بمئات الملايين من جموع الشعب الصيني أثناء حكم الرئيس ذو القبضة الحديدية (ماو تسي تونغ). لقد أحصيت أكثر من عشرة مواضع في الرواية تتكلم بنقد صريح عن مرحلة حكم الرئيس (ماو) ويكاد الكتاب كله يكون مكرسا لتصفية الحساب مع التجربة الاشتراكية الماوية والتذكير بلهجة محايدة تخلو من الانفعال والغضب بمساوئ تلك المرحلة وأخطائها التي تحملها الشعب الصيني صابرا ولاحقا عزم مثابرا على تصحيحها وإخراج الصين دولة وشعبا من مؤخرة الصفوف إلى الصف الأول للدول العظمى في عالم اليوم. أية قراءة تدقق ما بين السطور ستجعلنا ندرك أن الروائي (مو يان) قد قام بمجازفة عظيمة لاختراق هالة القداسة التي ما تزال حتى اليوم تحيط بسمعة الرئيس (ماو). وعلى طول الرواية يستحضر مو يان مقارنات بين أوضاع المدن والبلدات في عهد ماو وبين أوضاعها في زمننا القريب زمن النهضة أي ما بعد عام 2000. ويستحضر أيضا التحسن الإيجابي في قطاع الخدمات الذي كان مترديا في عهد (ماو) بسبب سيطرة الدولة ثم التقدم السريع في مستوى خدمات المطاعم والفنادق ووسائل النقل مع السماح للقطاع الخاص بالعمل. وأعتقد أن ملاحظاته الثاقبة تكتسب حيوية ومصداقية أفضل بكثير من أية انتقادات مباشرة قد يكتبها كاتب صيني منشق عن السلطة. ونسوق هنا مقطعا من الرواية للتدليل على أسلوب (مو يان) في النقد اللاذع لسلطة الرئيس ماو:
“كانت محطتنا الأولى هي الساحة التي اصطففنا فيها لأخذ الصور لنعود ونصطف مجددا عند ضريح الرئيس ماو للدعاء. وقفت أحدق إلى وجهه الراقد في التابوت الكريستالي وفكرت باليوم الذي وصلنا فيه خبر وفاته المأسوي قبل عامين وجعلني أدرك أنه لا مكان في العالم للخالدين. فقد كنا مقتنعين أن الرئيس (ماو) لن يموت لكننا كنا مخطئين. اعتقدنا أيضا أن وفاته كانت نذيرا بهلاك الصين. لكن بعد عامين لم تكن الصين موجودة فحسب بل بدأت تزدهر أيضا. إذ فتحت المدارس والجامعات أبوابها مجددا وخرج ملاك الأراضي الريفية والفلاحون الأغنياء من وضعهم المزري وأخذت الثيران المنتمية إلى فرق الإنتاج تزداد سمنة. حتى أن شخصا مثلي كان يلتقط صورته أمام ساحة تيانانمين ويشاهد شخصيا جثة الرئيس ماو”(ص50-51).
كما أن عنوان الرواية “التغيير” يؤكد المغزى الذي نشير إليه ولولا التغييرات المتتابعة التي أجرتها القيادات المتعاقبة التي خلفت الرئيس ماو لكانت الصين قد آلت إلى دولة فاشلة حالها حال عدد من دول العالم الثالث التي لم تتمكن من اللحاق بمتغيرات العصر وتحديث منظومات مؤسساتها واقتصادها.
تتكون الرواية من ثمانية فصول وللرقم ثمانية في الثقافة الصينية دلالات كثيرة جدا فهو رقم الحظ والرقم الدال على السعادة. وتنتهي الرواية – السيرة الذاتية في حدود عام 2008 وليست مصادفة اختيار كاتب كبير لهذا العام تحديدا ليؤرخ لنفسه. وأبسط دل