نهر الشعر وانحناء النخيل

عبد العزيز الزراعي

من أي عناقيده أبدأ¿ وهو الكثير على سلالي.. الممتد فوق أفق بصري… المتعالي على قامات مجازي.. إنه الحارث الخصب.. شجرة اللبلاب التي مدت عروقها في كل قلب مر بها وعرفها.. إنه الرجل الكثير والظل الذي استفاء فيه كل العابرين.. رحب حد أنه لا عتبة لدار قلبه ولا سقف ولا أبواب.. كائن من شعر مصفى وصلاة لا تنتهي.. إنه التباس الإلهي بالإنساني.. إنه نقطة ضوء بين السماء والأرض.. وهب للشعر كل ذاته.. إنه الشعر حين أراد أن يتجسد بشرا ويمشي في الأسواق ويصافح الناس. انتقاه الشعر بعناية فائقة.. اسمه.. جسمه صوته الجهوري إلقاؤه الساحر لغته ثقافته أخلاقه… هكذا تبدى لي في أول لقاء لي بالشعر متمثلا في جسده وهو يلقي ما يشبه السحر قائلا: لن أعير الضوء شيئا من بصيصي قبل أن تقرأني شعرا كان ذلك في العام 2006م كان كبيرا على وعيي المندهش بهذا العملاق الشعري… كانت نصوصه تقرأه فوق مداركي شعرا لم يخطر ببالي… كنت وجها لوجه مع الشعر في ولادته الأولى المختلفة… كان إرشيف ذاكرتي وأنساقها الجمالية تتهاوى أمام طريقة إلقائه وشاعريته التي لا عهد لي بها في كل ما قرأت وكتبت. ولم أستفق من دهشتي تلك إلا على دهشة كبرى مما رأيت.. كان لا يأتي زائر جديد والمكان مزدحم إلا ونهض الحارث وتخلى له عن مجلسه وجلس في الأرض.. وكان فوق ذلك مستمعا شغوفا للأخرين ومتحمسا لكل موهبة مبتدئة لا يمل السماع لها ولا يتذمر من أخطاء المبتدئين.. كان مختلفا فوق ما أتصور… تواضع جم.. وقلب رحب.. وابتسامة وظرافة لا تفارقه..وتشجيع للآخرين.. وصبر جميل على سماع الأخطاء والثقلاء دون نقد أو تذمر وسخرية. ليس في قلبه إلا الحب والشعر.. لا تنافس الشعراء ..ولا حسدهم ولا غرورهم.. كأنما خلق لمهمة أخرى هي أن يكون واسطة عقد جمعت بين جيل كبير من الشعراء.. كلهم كانوا يأتون لأجله.. وكل عرف الآخر عبر الحارث. .. يغيب فيسود المكان الصمت.. ويخيم الفقد.. ويرتبك العقد ويوشك أن ينفرط ويتناثر. لن أقول الكثير عنه وعن أخلاقه وسلوكه النبيلـ لأنه كثير فوق حروفي.. ولكن أقول إن الحارث بن الفضل مدرسة شعرية وأخلاقية أثرت في جيل شعري بأكمله.. وكانت لها بصماتها الجلية فيه شعرا وأخلاقا وسلوكا وقد لا أبالغ إن قلت إنه استطاع وحده في لحظة ما من الألفينيات أن يخلق مشهدا شعريا في اليمن يشار إليه بالبنان عجزت عن خلقه مؤسسات ثقافية كبرى وهو جدير بالدراسة والتحليل وإن قافلة من الشعراء الشباب تعترف بالأبوة للحارث بن الفضل. وفوق ذلك أسس ملامح تيار شعري حديث في التصوف في اليمن في ديوانيه(الحبيب المصطفى) و(الواو المسافر) كما أسس قبلهما ملامح تيار شعري في الغزل الصريح يتسم بالجرأة في تناول جسد المرأة في ديوانيه(حمالة النهدين) و(في انتظار المصعد) والأعمال الأولى في مرحلة كانت اليمن تشهد سيطرة تيار محافظ كان يعد ذلك النمط من الشعر محظورا ومن رحم مؤسسة كانت تميل لهذا التيار المحافظ كمؤسسة الإبداع مما يدل على امتلاك الحارث بن الفضل تجربة شعرية غنية ومفارقة للمألوف تمثل شاعريته الكبيرة المتمردة. ولأنه الحارث الخصب أعترف أني كنت أخشى عليه من مسحة التصوف التي طغت عليه في السنوات الأخيرة أن توهي جذوة الشعر لديه ليقيني أن النظم الفلسفية والفكرية والدينية حين تتحول لدى الشاعر لأيدلوجية قد تنحو بشعره إلى التصوير المجرد والبحث عن المطلق فتغيب حرارة الصورة الحسية المستمدة من حيوية الواقع وطزاجته ودهشته.. واختلافه وتمرده وقلقه الإنساني. فإذا بي أقف الليلة بين ديوانه الجديد(الواو المسافر) فيعيدني إلى دهشتي الأولى به.. إذ وجدت صوفية مختلفة وثائرة فيها امتداد لصوفية الحلاج وتمرد الإنسان على الطغيان والظلم ورفضه كما في هذا النص بعنوان(عراقة هود)كتبه في نهاية العام2011 عام الربيع العربي:
لم تبقö لي شيئا عليه أخاف
تصنيف عيشي في الكلاب كفاف
أنا ذقت منك الذل حين ظلمتني
والذل سم في الحياة زعاف
أنا لي عراقة هود..هل أدركت ما
في الدالö من عبء عليك يضاف
أنا بذرة التاريخö.. كيف تركتني¿
والطقس من حول الجذورö جفاف
هذا بأنك جاهل لعراقتي
وبأنني نون ونصفي كاف
أنا أمر تكوينö الشعوبö.. فهل لها
مثلي سنين في النضال عجاف
ماذا أحدöث عنك¿ كيف رميتني
بين الأنام وما علي لحاف
فنهضت ضدك ثائرا لكرامتي
والثأر أمر ما عليه خلاف

أشهد أيها الحارث أن نصوصك قد قرأتúك شعرا باذخا وأنك أعرت الضوء بصيصك ومنحت الناس والشعر كل قلبك وكل الضوء ولكن وطن العتمة هذا لا يقرأ ولا يريد أن يخرج من ليله فسلام عليك سلام عليك.

قد يعجبك ايضا